الباب السادس : وكيف يسلك عباد الله الطريق إليه |
اعلم أنّ كل شيء يهون بالنظر إلى ما فوقه ، وما
هو أشدّ منه ، بل يضمحل ويفنى ، ولا يكون شيئاً مذكوراً. كالذي تشوكه
شوكة فيلدغه عقرب ، فلا ريب أن الشوكة تكون عنده نسياً منسياً ، ولا ذكر لها
عنده بوجه من الوجوه ، فالباري سبحانه وتعالى قد قهر كل شيء من الأشياء بوجود
ما فوقه. انظر إلى عظمة أمير المؤمنين (ع) ، وشدة بأسه وبطشه ، وبلوغه في كل كمال أقصاه ومنتهاه ، كيف يتصاغر عند ذكر محمد(ص) ، ويقرّ على نفسه بالعبوديـة حيث قــال: أنـا عبــد من عبيد محمد (ص). الكافي : 1/89 وهذه قاعدة محسوسة في سائر الممكنات والموجودات ، فإذا أردت أن تهون عليك الدنيا وشدائدها فانظر إلى ما هو أشد وأصعب ، وتأمّل أن لو أضيف إلى ما أنت فيه شدة أخرى مما هو أشدّ عليك كيف كنت تصنع ، فحينئذ يهون عليك ما أنت فيه بالنسبة إلى ما هو فوقه ، وترى تلك الحال نعمة وتقول: الحمد لله الذي لم يشدده عليَّ ، ولو شاء لفعل. وكذلك إذا أردت أن يهون عليك استحسان ما يتفق لك من الأعمال الحسنة ، بحيث تخلص من الابتهاج الذي هو مادة العجب والافتخار ، فانسبه إلى ما هو فوقه من الأعمال الحسنة مما يعملها من هو فوقك ، ومن هو أحسن منك. أو أنت إذا ترقيت عن المقام الذي أنت فيه ، فإنك ترى ذلك العمل ذنباً وتقصيراً يحتاج إلى الاعتذار ، وتستحي من نسبته إلى نفسك ، فضلاً عن افتخارك وابتهاجك به. وأنت إذا اعتدت هذه الحالة بإذن الله الكريم المتعال سرت إلى الله بلا انقطاع ، إذ ليس لمحبته غاية ولا نهاية ، إذ كلما تدرجت إلى مقام في الإخلاص والعمل ، شاهدت مقاماً أعلى وأبهى وأسنى وأرفع.....(1) (1) إنّ الإحساس بالتجليات الإلهية - التي هي من أهم الهبات في عالم الوجود - نِعْمَ العون على المسير ، فإنّ العبد كلما كُشف له الغطاء في هذا المجال ازداد شوقاً لما هو أجلى وأحلى ، إذ لا تكرار في التجلّي .. فلكلّ إطلالةٍ من عالم الغيب بهاءٌ وجذبٌ خاصٌّ للعبد تختلف على سابقته ، ومن هنا فإنّ الأولياء المتنعّمين بلذّة التجليات ، لا يكاد ينتابهم ضيقٌ في الحياة بكلّ مراراتها ، لأنّ لذّة الوصل يُنسيهم ألم كلّ فراقٍ ، ولو كان ذلك الفراق عند أهل الدنيا عظيماً.( المحقق ) .....فإن كنت تريد النهاية به فليس هناك نهاية تصل إليها ، وتقف عندها ، وإن كنت تريد الوقوف من دون مانع عن الترقي فلا يسوغ لك ذلك ، إذ الكريم سبحانه يستدعيك بلطفه وَجُوده إلى القرب منه ، فبأي شيء تستبدل منه !.. وإلى أي شيء تتحول عنه !.. لقد خاب من رضي دونك بدلا ً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً. فحيث اتضح بصريح العقل أنه لا بدّ من السير إلى الله بسلوك سبيل طاعته بلا انقطاع ، فاعلم أن ذلك إنما يتم لك بأن تكون في وقوفك عن الطاعة ملاحظاً وجهاً آخر من وجوه الطاعة ، فإنّ الله سبحانه يحب الأخذ برخصته ، كما يحب الأخذ بعزائمه. فمن يكون طالباً لمحبة الله سبحانه وتعالى ، يفتح الله له هذا الباب بأن يجعل فعله للعبادة المندوبة الراجحة جالبا لمحبته عزّ وجلّ ، فإنها بالذات كذلك ، وكذلك يحصل بتركه لها في مقام يخشى على نفسه الملل والنفرة عن الطاعة - كما هو مقتضى الطبع البشري - مرخصاً فيه من الله ، وهو يحب الأخذ برخصته ، فيكون تركها جالبا لمحبته عزّ وجلّ بالعرض ، وإن لم يكن بحسب الذات كذلك. فيكون العبد متعرّضاً لمحبته عزّ وجلّ في فعله وتركه ، إنّ هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون. ويشهد لهذا المعنى اختلاف المروي عن أمير المؤمنين (ع)وعن مولانا الحسن بن علي. فعن الأمير (ع) أنه : إذا عرض له أمران كلاهما رضى الله اختار أشدهما على نفسه ، وعن الحسن (ع) أنه يختار أسهلهما على نفسه. فالثاني من باب أنّ الله يحب أن يؤخذ برخصته كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ، ومن باب الاقتصاد في العبادة ، ومن قولهم: إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تُكرهوا إلى عباد الله طاعة الله. [ الكافي : 2/70 ] .. ومن باب مخادعة النفس بالجلب إلى طاعة الله. والأول وجهه ظاهر فإنه من باب المخالفة للنفس (2)..... (2) إنّ تعبير المصنّف ( بكون مخالفة النفس مفتاح البركات ) ليس مبالغاً فيه ، إذ أنّ من قواعد السفر إلى الله تعالى التي لا تنخرم أبداً ، هي استحالة السير من دون السيطرة على زمام النفس ، إذ كيف يمكن سوق دابةٍ ولجامها بيد غير صاحبها .. وعليه فالخطوة الأولى في الحركة هو تطويع الوجود الإنساني بجوارحه وجوانحه للإرادة ، ومن المعلوم أنّ هذه المرحلة يمكن أن تعدّ قطعاً لنصف الطريق ، إذ أنّ الميل والشهوة والخيال من الأبواب التي تجرّ العبد إلى الهاوية مهما كان العبد جادّاً في قطع الطريق ، فإنّ الأمر لا يتمّ بالإيمان واليقين فضلاً عن الأماني .. ومن هنا قال الإمام الكاظم (ع) : وقد علمت أنّ أفضل زاد الراحل إليك عزمُ إرادة يختارك بها ، وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي . ( الإقبال ج3 ص277 ).( المحقق ) .....الذي هو مفتاح البركات ، وكلاهما في مقام الإرشاد للعباد والهداية للخلق ، وإلا فمقاماتهم في أنفسهم بما تقصر عنه العقول والأحلام ، وهم أعرف بها. وكذلك لا بدّ لك من التروي في العمل والتدبر فيه حتى يتأتى إيقاعه على الوجه المطلوب ، وحتى يتحرر أنه منبعث عن داعي الإخلاص ، وذلك في الغالب يقتضي مدة ومهلة ، مع أن كل شيء أخرته فللشيطان فيه نظرة ، وللتأخير فيه آفات ، وفيه يُخشى الفوات. فإذا تعارض عليك هذان الأمران ، حيث إنك بالتأخر تخشى الفوات ، وبالتقديم والاستعجال تخشى فساد العمل بعدم التروي والتأمل ، ومخادعة الشيطان (لعنه الله) بإبرازه لك في صورة الطاعة ، وهو في الحقيقة لداعي النفس والشيطان فيكون من نوع المعصية. فطريق الخلاص من هذا التعارض ، أن تعلم أنّ التأخر الذي للشيطان فيه نظرة ، وفي الغالب أن يكون مفتوتاً للعمل ، إنما هو التأخــر عجــزاً وكسلا ً، وحرصا على المال ، ومحبة لأن يبقى في قبضتك ولا تنفقه فيخرج من يدك ، هذا هو التسويف المهلك للعالم ، وهذا لا شكّ في قبحه ، ووجوب مجاهدة النفس ومخادعتها لأن تسلم منه. وأما التأخّر لأجل التروي والإتقان ، فهو مطلوب ومحبوب ومأمور به من قبل ربّ العزّة ، فلا يستتبع ندامة ، ولا يكون مفوتاً للخير ، لأنك محسنٌ بامتثالك الأمور و{ ما على المحسنين من سبيل } . التوبة/91 (1) (3) إنّ معرفة التوقيت المناسب للإقدام أو الإحجام عن العمل ، يحتاج حقيقةً إلى بصيرةٍ وتسديدٍ من الله تعالى ، فلطالما فوتنا على أنفسنا المنافع العظيمة ، نظراً لعدم ترقّب الفرص التي تمرّ كما تمرّ السحاب ، فإنّ قطف الثمار في وقتها من هموم السالك.. فكم من الخسارة أن يستيقظ الزارع بعد موسم القطاف ، أو أثناء الموسم وقت ذبول الحصاد؟! ..( المحقق ) مع ذلك إذا أردت أن تتقن الأمر وتضبطه ، فاجعل تأخيرك مقروناً بالتوكّل على الله ، في أن يمكّنك منه في الوقت الذي تؤخّره إليه ويعينــك ، واجعل تقديمك للشيء عند مجاذبة داعي الكسل والحرص إلى التأخير ، مقروناً بالتوكّل على الله في أن يعينك على إخلاص المشيئة فيه ، وإيقاعه على وجهٍ محبوبٍ إليه ، وجالبٍ لرضاه. فإذا قرنت الأمر بالتوكل في كل من التأخير والتقديم ، واجتهدت في تشخيص الداعي إلى التقديم والتأخير ، فإن كان هو الحرص على الشيء بالرغبة النفسانية والكسل ، والحرص على ما في يديك ، لم تنبعث لهذا الداعي الفاسد. وإن كان المحرّك على كلّ من التقديم والتأخير داع صحيح انبعث له ، فأنت محسنٌ في تقديمك وتأخيرك ، وما عليك من سبيل ، وأنت جالبٌ لمحبة الله بكلٍٍّ من التقديم والتأخير ، كالذي قدّمناه لك من أنك متعرّضٌ لمحبة الله في فعلك وتركك. فإن كان العبد متعرّضاً لمحبة الله بفعله وتركه ، وتقديمه وتأخيره ، تمّ له السير إلى الله بسلوك سبيل طاعته بلا انقطاع ، وحاشاه حاشاه أن يقطع من انقطع إليه وقرع بابه. (4) (4) هذه العبارة على إيجازها دقيقةٌ جداً ، فإنه جمع بين التعرّض للمحبة الإلهيـة – فإنه قوام الجذب الإلهي للعبد – وبين السلوك العملي أداءً للواجب وتركاً للحرام ، فإنّ البعض يتوهم أنّ إظهار المحبة من دون عمل مما يحقق للعبد درجات من القرب ، فتراهم يهيمون في عالم من التحليق الروحي ، مستخدمين الشعر تارةً والنثر تارةً أخرى ، ليرجعوا من تحليقهم إلى واقعهم المعاش بما فيه من موجبات إثارة سخط المولى ، سواء في مجال التعامل الفردي أو الإجتماعي أو الأسري..( المحقق ) ثم لا تتوهم انحصار طريق القرب إلى الله بالعبادة المعلومة من الصلاة ، والصيام ، وتلاوة القرآن ، والتعلم ، والتعليم ، واستعمال الأدعية ، والزيارات ، ونحو ذلك ، بحيث يكون كل ما خرج عن ذلك لغوا ً، وتضييعاً للعمر فيما لا فائدة به ، كما ظنّه كثيرٌ من إخواننا الصلحاء ، فإنّ ذلك قصورٌ واشتباهٌ للأمر بك. (5) (5) هذا بابٌ من الأبواب التي تفتح على صاحبه أبواباً من المعرفة والبصيرة في السير إلى الله تعالى .. فترى البعض يلخّص الطريق في مجموعة من الأذكار والأوراد ، ناسياً أنّ الدين ليس من مقولة اللفظ ، وإنما الدين قوامه المعرفة والمعاملة ، وهما يفرزان الذكر الذي ينسجم مع طبيعة الشريعة . ولطالما كان الإنشغال بالأوراد – بغير طريقة أهل البيت (ع) - من موجبات التخدير الباطني ، فيرى أنه على شيء وليس على شيء .. أضف إلى ذلك كله أنّ حقيقة الدعاء وهي الحركة النابعة من القلب من مقولة المعاني .. والدعاء اللفظي ليس إلا كاشفاً عن تلك المعاني الباطنية .. فإذا خلي اللفظ عن استحضار المعاني المناسبة لها كان الكاشف مما لا منكشف له.. وما قيمة القالب الذي لا قلب له ؟..( المحقق ) اعلم أنّ مراد الشارع الأصلي من المكلفين تقوية البصيرة ، لكي يطيعوه بالبصيرة التامة ، والمعرفة الكافية ، وكل ما له دخل في تقوية البصيرة وزيادة الفطانة ، فهو داخلٌ في مراد الشارع ومطلوبٌ له ، بل يكون طلبه له وحثّه عليه آكد من غيره. ومن اقتصر على العبادات التي ذكرناها ، وقصُر نظره عنها ، يغلب عليه الجمود ، وتقلّ فطانته بالموضوعات الشرعية في القبلة والوقت ونحوهما ، ويتمكن من خديعته من يريد الخديعة له في دينه من شياطين الإنس والجن ، وهذا خلاف مراد الشارع ونقيض غرضه. بخلاف من يمارس الأمور ببيعٍ وشراءٍ ، ويتعلّم الآداب ، ومحاورة الخطاب ، والنكت المستحسنة للسؤال والجواب ، ويضيف ذلك إلى عباداته وأوراده ، وعلمه وتعليمه ، هو الرجل كلّ الرجل ، نِعْمَ الرجل ، والوجدان والاختبار لذلك أعظم شاهد. وكلّما سرّحت نظرك في تعلّم شيءٍ من الصناعات المحسوسة، فتح الله لك أبواباً من العلم في المعقولات ، والأصل في ذلك أن الله سبحانه قد ربط المحسوسات بالمعقولات ، والأمور الأخروية بالأمور الدنيوية. فمن أراد الأمور الأخروية بغير الأمور الدنيوية لم يتأتَّ له ذلك ، فقد جعل الله الأمور الأخروية لا تتم إلا بالدنيوية ، وجعل الدنيا المقصود بها التوصل إلى الآخرة محسوبة من الآخرة ، ولا تدخل في مذام الدنيا ، ولذا ورد في الحديث أنه: ملعونٌ من ترك آخرته لدنياه ، ملعونٌ ملعونٌ من ترك دنياه لآخرته .. انتهى معنى الحديث. فإنّ الدنيا التي يُلعن من تركها للآخرة هي التي يُتوصل بها إلى الآخرة ، ولا تتم أمور الآخرة إلا بها ، وهي في الحقيقة من الآخرة ، وتركها ترك الآخرة ، والدنيا المذمومة هي التي لا يقصد بها التوصل ، وهي الفضول التي لا يتوقف عليها شيء. فالنوع الأول من الدنيا كما لا بدّ منه في التوصل ، وهي واجبةٌ ، لذلك أيضاً بإذن الله جُعل الخوض فيها مفيداً للفطانة وتقوية الفهم والبصيرة ، وهو معنى ما في روايات التجارة: أنها نصف العقل . [ في معظم المصادر : تزيد في العقل كالكافي : 5/148 ] .. وروي أيضاً: أنّ العبادة عشرة أجزاء : تسعة منها في التجارة ، وجزء واحد في جميع الطاعات . [ في ( الوسائل : 12/4 ) : تسعة أعشار الرزق ، بدل العبادة ] .. ويؤيد ذلك أن النبي (ص) اتجر قبل البعثة إلى الشام ، وغيره من الأنبياء والمرسلين. (6) (6) هذا هو مقتضى الجمع بين تكاليف العبودية في كل المجالات ، فإنّ الجامعية في العمل بالشريعة من مواصفات السالك الحق ، بخلاف من يريد أن يطير بجناحٍ واحدٍ فضلاً عمن يريد أن يطير بريشة واحدة !.. ومما هو مجرّبٌ بالوجدان أنّ الخلل الذي يوجبه التقصير في السعي لتأمين المعاش من موجبات توزع البال وعدم استجماع الهم ، والسالك أحوج ما يكون لدفع التشتت وما يسمى بـ ( الكثرات ) في حياته ، فإنّ كلّ شاغلٍ بمثابة خيطٍ يشدّ العبد إلى ما يوجب له التثاقل إلى الأرض .. وهذا كله بخلاف ما يحلّ بالعبد من القضاء والقدر المحض ، فإنه سيؤجر عليه وإن أوجب له التشتت قهراً ، فالله عزّ وجلّ مدركٌ لكل فوتٍ ، ومعوضٌ بما لا يخطر على بال العبد ...( المحقق ) فاقتضت الحكمة الإلهية أن تكون هذه الكمالات مفرّقة في العالم، وأن يكون كثيرٌ منها متداولاً على ألسنة الناس شائعاً بينهم حتى يصل إلى كلّ أحدٍ نصيبه ، ولهذا أمر بأن تقبل كلمة الحكمة ممن جاء بها كائناً من كان ، حتى قالوا عليهم السلام : خذ الحكمة ولو من أهل النفاق . البحار : 2/99 .. وقالوا (ع) : خذوا العلم من أفواه الرجال . [ البحار : 2/105 ].. فلما أراد الشارع الحكيم لهذا العبد أن يستوفي نصيبه من الحكم والمعارف ، بذلها له في العالم حتى يتيسر وصولها إليه ، وأمره بقبولها ممن جاء بها ، فإن أهل البيت (ع) أمروا شيعتهم أن يعرفوا الرجال بالحق ، ولا يعرفوا الحق بالرجال ، فقال (ع): انظـر إلى مـا قال ولا تنظر إلى من قال . البحار : 1/355.. وقالوا: غريبتان: كلمة حكمة من سفيه فاقبلوها ، وكلمة سفه من حكيم فاغفروها . البحار : 2/44.. فالكمال كلّ الكمال إنما هو اكتسابٌ من أقوالٍ وأفعالٍ ، أو معاملاتٍ ، أو تجاربٍ ، حتى ورد عنهم (ع) : أنّ العقل حفظ للتجارب ، وخير ما جربت ما وعظك . [ البحار : 74/208 ] .. وأن التجربـة علمٌ مستفادٌ . غرر الحكم .. فما انقدح في نفوس جملةٍ من الاخوان من الاقتصار على هذه العبادات المألوفة ، وقصر النظر عليها جرّبناه ، واختبرناه ، وتأمّلنا في الأحوال الماضية من أهل الأعصار السابقة ممن نُقل إلينا حاله ، فوجدناه مستلزماً للبلادة وقلّة الفطانة ، غير موصل صاحبه إلى الترقي ، واكتساب المقامات الرفيعة ، فأحببنا التنبيه على أنه من خدع الشيطان الرجيم (لعنه الله) التي يحبسه بها عن الانتقال إلى المقامات الرفيعة ، والرتب السنيّة. ومم يُهتدى إليه باستسهال الشيء بالنسبة إلى ما فوقه ، استحقار الدنيا وشؤونها وأطوارها ، بنسبتها إلى أمور الآخرة وأحوالها وأطوارها. فالواجب على من يريد الإقبال على الله أن يُخرج هموم الدنيا من قلبه ، فلا يفرح بشيء ٍمنها أتاه ، ولا يحزن على شيءٍ منها فاته ، بأن يتدبرها في نفسها ، وينظر في فنائها وزوالها ، وسرعة تقلّباتها ، وعدم دوامها على حال ، فالعاقل لايليق به أن يتوجّه إلى هذا الشيء الذي لا يستقرّ على حال ، بل هي في الحقيقة لا شيء. وثانياً بأن هذه الدنيا إن فرضناها شيئاً - كما هو مقتضى تلبيس الشيطان (لعنه الله) الذي لبّس به على هذا الخلق ، بحيث أوهمهم بأنها في نفسها شيءٌ حسن - لكن لا ريب وبالضرورة لا نسبة لها إلى ما هو أحسن من ملاذ الآخرة التي اجتباها الله لأوليائه ، واختارها لأصفيائه. فعلى فرض أن الدنيا فيها شيءٌ من الحسن ، فهو مضمحل عند نسبته إلى حسن الآخرة. فإذا أدمت النظر وأحسنت الفكر ، انجلى لك أن من يتوجّه إلى شيءٍ من أمور الدنيا من حيث أنها دنيا - لا لأجل التوصّل إلى الآخرة - متوجّهٌ إلى العدم المحض والباطل الزائل. (7) (7) إنّ الالتفات إلى فناء الدنيا وزوالها من الأسباب المهمة لقطع التعلق القلبي بها ، فإنّ المذموم هو حب شهواتها ، وإلا فإنّ ذات الدنيا مما لا تصف بحسنٍ ولا قبحٍ .. فإذا كان الله تعالى هو المزين لها فلا حقّ لأحدٍ في ذمّها ، فكيف وقد استنكر الله تعالى من حرّم زينتها .. وإذا كان المزين هو الشيطان حقّ للإنسان أن يحترز منها كما يحترز من الحيّة التي يلين مسّها وفي جوفها السمّ القاتل .ومن الضروري مخادعة النفس في هذا المجال فنمنّيها بالأجر الأعظم الأدوم لترفع اليد على الأقلّ المنصرم .. وقد روي عن علي (ع) انه قال : لو كانت الدنيا ذهبا والاخرة خزفا ، لأخذت خزف الآخرة على ذهب الدنيا ، فانه خزف باق وذهب الدنيا فان .. فكيف والآخرة ذهب باق والدنيا خزف فان ؟... شجرة طوبى 2-422 .( المحقق ) فيا أيها الأخ !.. اعلم أنّ طريقة أهل البيت (ع) على أن تعرف بأنها ليست شيئاً في نفسها ، فمهما رأيتها شيئاً وتريد أن تتركها لشيءٍ آخر أحسن منها ، فأنت لم تهتدِ إلى طريقة أهل البيت (ع) . فأجمع فكرك وتضرّعك إلى ربّك في أن يعرّفك الدنيا على ما هي عليه عند أهل البيت ، لتكون في الذين يقتفون آثارهم ، ويتبعون منهاجهم ، وإلا فنحن بوادٍ والعذول بوادٍ. وإذا تبدّه عندك بعض النظر الصحيح ، والفكر الثابت المليح أن الدنيا ليست شيئاً يطلب ، ولا مما يصح أن يتوجّه إليه القصد ، فلا مناص لك عن انحصار قصدك وتوجّهك فيما يرجع إلى الله ، وفيما يطلب الله. فإذا اتفق أنه يصدر منك بعــد ذلك شيءٌ لا لله سبحانه بل لمقتضى الطبع ، أو لميل النفس ، أو لمخادعة الشيطان (لعنه الله) فهذا مما لم يكن داخلاً تحت قصدك ، ولا مندرجاً تحت إرادتك وعزمك ، بل أشبه شيءٍ بالكلام الذي يقع منك غلطاً ، أو الكلام الذي أوقعك فيه الغير بحيلةٍ ، أو خديعةٍ ، أو أنه وقع منك نسياناً لما أنت بانٍ عليه ، أو سهواً عما أنت عازمٌ عليه ، فيصحّ لك على هذا أن تقول في الزيارة الجامعة: ( مطيعاً لكم ) حيث أنك في حال القصد والتخلية لا تطيع إلا لهم ، ولا ترى غيرهم من أعدائهم أهلاً للطاعة إلا أن تُخدع ، أو تفرّ أو تسهو ، أو تغلط فتقع في غير مرادك ، وخلاف قصدك ، فيتأتى منك حينئذ التوبة الصادقة ، والاستغفار الصادق ، حيث إنك دائماً عازم على عدم العود في الإثم ، وعلى الاستمرار على الطاعة (8) ..... (8) هذه صورةٌ من صور الواقعة التي اتبعها المؤلف في نهجه الأخلاقي ، فإنّ الزلل الحاصل من الغفلة أو السهو لا ينبغي أن يبعث اليأس في نفس السالك ، فإنّ القلب كثير التقلب بطبيعته ، والله تعالى يحب التوابين كما يحب المطهرين ، وقد شبهت بعض الروايات المؤمن بالسنبلة التي تخرّ تارةً وتستقيم أخرى .. ومن المعروف عند أهل المعرفة أنّ حركة العبد التكاملية بعد كلّ إنابةٍ وتوبةٍ ، قد تشتدّ لتكون سبباً لتعويض المراحل التي خسر في طيّها عند الغفلة أو الشهوة.( المحقق ) .....ولا تكون ممن ورد فيه الحديث: بأن المقيم على الذنب وهـو يستغفر منــه كالمستهتزئ بـربه . البـحـار : 90/281 فتخرج بما ذكرناه عن عنوان المستهزئين ، وكأنه إلى هذا المعنى أشار سيد الشهداء (ع) في دعاء عرفة : إلهي !.. إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً جزماً ، فقد دامت محبةَ وعزماً . إقبال الأعمال : 348 فكل ذلك يتوقف على خروج حب الدنيا من القلب ، ولو بالمعنى الذي ذكرناه بأن يكون بناء أمرك وتصميم عزمك على أن لا تفعل شيئاً من أمور الدنيا من حيث أنها دنيا ، إذ هي بهذه الحيثية ليست مقصدا للعاقل ، بحيث تعد نفسك إذا فعلت ذلك لذلك داخلا في السفهاء ، وخارجا عن عداد العقلاء ، فإذا أتقنت ذلك بحيث تبدأه في نظرك تمّ لك الغاية التي ذكرناها وغيرها مما في معناها ، فاغتنم ذلك ولا تكن من الغافلين. |
اضغط هنا للرجوع للصفحة الرئيسية لـ "كتاب الطريق إلى الله تعالى"