مشايخه وأساتذته:
أخذ الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى على جملة من علماء وأساتذة وفضلاء عصره، كلٌ وفق منهجه في التدريس، ومنهم:
1 ـ الشَّيخ محمَّد كاظم الهروي الخراساني رحمه الله تعالى، صاحب كتاب الكفاية في اُصول الفقه، حضر عنده بحث الخارج في درس الكفاية ست دورات.
2 ـ السيِّد محمَّد كاظم الطباطبائي اليزدي رحمه الله تعالى، حضر عنده مجلس درسه منذ عام (1312 ـ 1337هـ) حيث وافت السيِّد فيها المنية.
3 ـ الشَّيخ محمد رضا الهمداني رحمه الله تعالى، صاحب كتاب مصباح الفقيه، كان من حضّار درسه لمدة عشر سنوات.
4 ـ الميرزا محمَّد تقي الشِّيرازي رحمه الله تعالى، درس عنده لمدة سنتين.
5 ـ الشًيخ محمَّد باقر الأصطهباناتي رحمه الله تعالى، وكان الشَّيخ رحمه الله تعالى قد حضر عنده دروس الحكمة والكلام.
6 ـ الشيخ أحمد الشِّيرازي رحمه الله تعالى.
7 ـ الشيخ محمَد رضا النجفي آبادي رحمه الله تعالى.
الشَّيخ كاشف الغطاء والمرجعية
لقد استطاع الشَّيخ كاشف الغطاء بما عُرف عنه من تضلُع مشهود بعلوم الفقه والأصول، والحكمة والفلسفة، والالهيات وغيرها أنْ يلقي بظلاله على أطناب الحوزة العلمية العامرة في مدينة النجف الاشرف آنذاك، رغم وجود العديد من الأساتذة الكبار والعلماء الفضلاء أمثال استاذه اليزدي رحمه الله تعالى وغيره ممَّن تقدم ذكره.
بل وذُكر أنَّه رحمه الله تعالى أنجز وفي حياة اُستاذه اليزدي شرحه على كتاب العروة الوثقى الذي كان يحاضر به مع تلامذته في دروسه المختلفة التي كان يلقيها تارة في المسجد الهندي، واُخرى في جانب الباب الطوسي أو مقبرة الامام الشِّيرازي رحمه الله تعالى بجوار ضريح الامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام.
ولقد شهد له معاصروه من العلماء الكبار، وتلامذته الذين صاحبوه في تلك الحقبة السالفة من حياته المباركة بأنَّه كان فقيهاً بارعاً، قوي الحجة والبرهان، بل ومجتهداً في مبانيه، حراً في آرائه ونظرياته، حيث كان كثيراً ما ينتزع العديد من الفروع التي تعسر على البعض ـ وذلك لا غرابة فيه ـ لما امتاز به رحمه الله تعالى من ذوق عربي سليم يؤهِّله لفهم وادراك حقيقة النصوص المعتمدة في بناء جملة واسعة من الأحكام، حتى أنَّه رحمه الله تعالى قد روي عنه اتيانه ببعض المسائل الفقهية النادرة التي ليس لها عنوان محدد في الكتب الفقهية الاستدلالية، فيفتي بها مع تقديمه الحجة والدليل على ذلك، تاركاً للآخرين مسألة المذاكرة حول ذلك الأمر وأبعاده.
نعم، إنَّ من المسلَّم به كون مسألة التوسُّع في التفريعات الفقهية تتطلب مهارة فائقة، واحاطة واسعة بهذا العلم الذي يعسر على الكثيرين
الخوض في غماره، واجتياز عبابه، وهذا الأمر ما كان يمتلكه الشَّيخ كاشف الغطاء، فوفق في ذلك أيَّما توفيق.
والحق يقال: إنَّ امتلاك هذه القدرات الواسعة في جملة تلك العلوم قد مهَّدت السبيل أمام شيخنا المترجَم للتربُع على عرش المرجعية العامَّة للشِّيعة، والتي تُعد بحق شرفاً عظيماً، ومنزلة رفيعة، لا ينالها إلا القلَّة من ذوي الجد والاجتهاد، والتقوى والايمان.
ففي عام (1337 هـ) وبعد وفاة السيِّد اليزدي رحمه الله تعالى ـ والذي كان يُعد مرجعاً كبيراً من مراجع التقليد ـ اتجهت الأبصار نحو الشَيخ كاشف الغطاء، فتوافد على درسه الفضلاء والعلماء، وتطلَعوا عن كثب مدى ما يُنسب اليه من كبير الفضل، وعظيم المنزلة، فوجدوا الوصف عن الموصوف، والحقيقة تقصر عنها الحكاية، فأقرّ الجميع بعلميته، وثُنيت له الوسادة، وشاع في الأصقاع ما عليه من تلك السمات المؤهِّلة لتسنُّم المرجعية الشِّيعية، فتعاظم عدد مقلديه في أنحاء العالم المختلفة، ممّا دفعه ذلك بعد نشره لرسائله العملية إلى اعادة طبعها مراراً وتكراراً، لزيادة الطلب عليها، وتكاثر أعداد مقلديه.
وهكذا فقد توطَّدت مرجعية الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى، وكان ذاك ايذاناً لتحمُّله عبء أعظم المسؤوليات المناطة بمراجع الأمَّة، لا سيِّما وقد كان العالم الاسلامي ابان تلك الحقبة يشهد جملة واسعة من التغيرات والتطورات والانتكاسات التي تستلزم معالجة واقعية حاسمة، ومواقفاً شجاعة ثابتة لدرء حالات النكوص والانهزام والتبعثُّر التي أصبحت سمة غالبة مشخَّصة لواقع المجتمع الاسلامي آنذاك.
الشَّيخ كاشف الغطاء وبصماته الخالدة على صفحات التاريخ
كثيرون هم من تطويهم عجلات الزمن وصفحاته المتلاحقة دون أنْ يتركوا لهم آثاراً ـ وإنْ دقت ـ تدلُّ على عبورهم من خلال بوابة الحياة المشرعة، ومنافذها الواسعة، فرحلوا كأنْ لم يكونوا إلا أسماء ما أسرع ان يعفو عليها ويخفيها غبار الأيام.
نعم، إنَّ الله تعالى ما خلق الانسان إلا وجعله مقترناً بأمر كبير، وموسوماً بصفة عظيمة، ألا وهي خلافته في أرضه، إذ قال جلَّ اسمه مخاطباً ملائكته: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفةً)(1) بل وجعل سبحانه مقياس الوفاء باداء الرسالة هو العمل، فمن خلاله تُمنح المنازل والدرجات، ويُنال الرضا في المحيا وعند الممات، وذلك ممّا هو أجلى من الشمس في رابعة النهار.
وحقاً قد تتفاوت الأعمال شكلاً وكيفاً، بيد أن اعتماد المنهج الشرعي السليم الواضح في ادائها هو المقياس الحقيقي الذي تقيم به تلك الأعمال، ويمكن للمرء أنْ يشير لها بالبنان بفخر واعتزاز، وما أقل ما هي.
ولا نغالي بشيء إذا قلنا بان حياة الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كانت ميداناً خصباً للكثير من الأعمال المباركة التي اتشحت بها سنوات عمره القصير، وأبرزت من خلالها دقائق توجهاته، وحقائق معتقداته، فكانت فعلاً وممارسة لا اُطروحة وتنظيراً، وذلك هو اسمى ما يُوسم به المؤمنون.
ولا أقول إِني ساستقرىء من خلال صفحات مقدمتي هذه أبعاد تلك المواقف قدر ما أردت منها مجرد اللمحة والاشارة ـ وذلك لعسر المخاض،
____________
(1) البقرة 2: 30.
ومشقة الاستقصاء، ومحدودية المدى المتاح ـ تاركاً عبء ترجمة هذا الطموح للدراسات الخاصة بهذا الأمر، لأنَّي وجدت عند البحث قصور التراجم المحدودة للشَّيخ كاشف الغطاء عن احتواء الكثير من الأبعاد الخاصة به ـ مع اقراري بجدَّة البحوث، وصدق النوايا، ومبلغ الجهود المبذولة ـ رغمِ كون الفاصلة الزمنية بيننا وبين عصر المترجَم رحمه الله تعالى لا تمثل بوناً شاسعاً تتثاقل الخطا عن تجاوزه، وتتوه النفوس عن تلمُّسه، بل هو أيسر الان من أنْ يترك فتتقادم عليه السنون، وتُسدل عليه ستائر النسيان، فتضطرب في التحدُّث عنه الروايات كما يتلمَّسه الباحثون عن سيرة الكثير من رجال هذه الاُمة وعظمائها.
ومن ثم فساحاول من خلال هذه الصفحات الاشارة العابرة، واللمحة الخاطفة عن بعض مواقف الشَّيخ رحمه الله تعالى، بايجاز واختصار:
1 ـ الجهاد ضد الاستعمار البريطاني
حين امتدت ذراع الاخطبوط البريطاني المستعمر نحو الأراضي العراقية ـ في سعيه المحموم لابتلاع وازدراد خيرات تلك المنطقة، بدعوى منازلة الدولة العثمانية التي قادتها تخبُّطاتها الرعناء نحو جملة خطرة من المزالق والمهالك المتكررة ـ كانت مخيلة الساسة البريطانيين قد صوَّرت لهم حتمية اصطفاف الشِّيعة يتقدَّمهم علماؤهم إلى جانب تلك القوات الغازية، لادراكهم (أي البريطانيون) عظم المحنة التي اُبتلي بها الشِّيعة من رجال تلك الدولة وقادتها الذين انشبوا أظفارهم بحمق في جسد هذه الطائفة المستضعفة دون رحمة أو شفقة، وباصرار عجيب، وتعنت غريب، كان أعظمه في افتاء شيخهم انذاك بحلِّية دم الشِّيعي(1) !!
____________
(1) نعم لقد ذكر بأنّ الشَّيخ نوح الحنفي هو الذي أفتى ـ على ما هو مثبت في باب الردة والتعزير
=>
بيد أنَّ حساباتهم كانت خاسرة، وتصوُّراتهم كانت باطلة، إذ أتتهم الرياح بما لا يشتهون لسفنهم، ودارت عليهم الدوائر، وخرج الشِّيعة لمحاربتهم بشكل اقشعرت له أبدانهم، وأهتزت لمنظره أفئدتهم.
نعم لقد اصطف الشِّيعة آنذاك، يتقدمهم علماؤهم الأبرار مع بقايا الجيش العثماني المهلهل المنهزم، لادراكهم بوضوح ما يشكِّله الاستعمار البريطاني من مخاطر وخيمة لا تستهدف خيرات الشعوب المسلمة فحسب قدر ما يمثِّله من خطر جدي على عموم العقيدة الاسلامية المباركة بكل أبعادها، خلاف الدولة العثمانية التي رغم كل انحرافاتها ومساوئها فانَّها يحتويها معهم رباط الاسلام المقدس، وهذا ما اثبتت صوابه الأيام.
وهكذا فقد بدأت قوافل العلماء المجاهدين بالتوجه إلى ساحات النزال والمجالدة الشرعية، مرتدين أكفان الشهادة بعزيمة واصرار راسخين... مسجِّلين مآثر ازدانت بها صفحات التأريخ، وتفاخر بها الأبناء ومن بعدهم الأحفاد، وستبقى خالدة مدى الدهر لأسماء طُرِّزت بماء الذهب
____________
<=
ولا ادري بم يعتذر به يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ، وحيث قُتل نتيجة فتواه هذه ـ التي جاءت استجابة لرغبة سلطان السؤ سليم الأؤل، الذي دفعه عداؤه المستحكم للشاه اسماعيل الحاكم انذاك في ايران، والذي نصب نفسه حامياً للمذهِب الشَيعي ـ عشرات الالوف من رجال الشيعة ونسائها، دون أي ذنب وأي جريرة، إلا لأنَهم شيعة فحسب.
فقد ذُكر أن السلطان سليم قتل في الأناضول وحدها أربعين ـ وقيل: تسعين ـ ألفاً من الشيعة، بل وذكر أن مدينة حلب ـ التي كانت عاصمة الدولة الحمدانية، ومن مراكز تجمع الشَيعة ـ لم يبق فيها شيعي واحد !! فتأمل.
من أفاضل علماء الشِّيعة الذين كان الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة واحداً منهم، وحيث كان من المرابطين في مدينة الكوت عام (1334هـ ـ 1916م) للتصدي لتقدم القوات الانكليزية الغازية ـ المدججة بأحدث الأسلحة، وأشدها فتكاً ـ رغم ضآلة الامكانيات، وبساطة المعدات، فكانوا مع عموم المجاهدين سيفاً قاطعاً، وموتاً زؤاماً أحاط بالقوات النازية واجتاحها كالطوفان لا يلوي على شيء، بل وأوشك أنْ يوردها الحمام لولا تخاذل الجيش العثماني، وقلة العِدد، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
2 ـ موقفه من مؤتمر بحمدون
يحاول المستعمرون ـ وكما يعرف ذلك الجميع ـ خدمة أغراضهم السياسية، وطموحاتهم غير الشرعية بشتى الوسائل التي تتفتق عنها مخيِّلتهم النهمة، متسترين ـ وصولاً إلى ذلك ـ بأشكال مختلفة من الشعارات والعناوين الجذابة، مستدرجين من تنطلي عليه أكاذيبهم وأحابيلهم التي لا تغرب حقيقتها عن ذوي الألباب.
نعم، وصورة تلك الحال كانت واضحة في المؤتمر الذي دعت له جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الامريكية للانعقاد بتأريخ 22 نيسان عام (1954 م) في لبنان، وبالتحديد في مدينة بحمدون، وحينها تلقى الشَّيخ كاشف الغطاء دعوة رسمية موجهة من قبل كارلند ايفانز هوبنكز نائب رئيس تلك الجمعية لحضور هذا المؤتمر الذي ينحصر ـ على حد زعمهم ـ بعلماء المسلمين والمسيحيين، وأنْ تتحدَّد أعمال هذا المؤتمر بمناقشة ودراسة المواضيع التالية:
1 ـ دراسة القيم الروحية للديانتين الاسلامية والمسيحية.
2 ـ تحديد موقف الديانتين من الأفكار الشيوعية الالحادية.
3 ـ وضع البرامج الكفيلة بنقل القيَّم الروحية التي تؤمن بها الديانتان إلى الجيل الحديث.
وكان غير خافٍ على أحد أنَّ الغرض المتوخى من اقامة هذا المؤتمر ـ الذي كانت تروِّج له الادارة الامريكية انذاك ـ هو تسخير المسلمين وعلمائهم كاتباع منفذين للسياسة الغربية التي هالها وأقلقها التوُّرم المظهري الكاذب لسريان الأفكار الشيوعية في أنحاء مختلفة من العالم ابان تلك الحقبة الغابرة التي شهدت انخداع العديد من تلك الشعوب بتلك الأفكار الالحادية التي ساهم في انتشارها حينذاك حدة التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع الواحد ـ وهو مرض الرأسمالية العضال ـ تزامناً مع ما اُسمي بالثورة الصناعية، واستثمار اصحاب رؤوس الأموال لحالة التفاوت الحاد بين عنصري العرض والطلب بعد الهجرة المكثفة التي شهدتها المدن الصناعية الكبرى من القرى والأرياف، فانتهز دعاة هذه الأفكار المنحرفة حالة البؤس المزري التي احاطت بالأيدي العاملة هناك من خلال خداعهم بحالة الفردوس المزعوم التي ستحققها لهم عند تصديها لقيادتهم، ولكن الزمن اتى على كلِّ أكاذيبهم ففضحها، وكلِّ حيلهم فابطلها، وسقطوا في مزبلة التأريخ بلا أسف عليهم.
نعم لقد كانت حالة الاضطراب التي بدأت تعم دوائر صناعة القرار في أوربا لمواجهة طغيان المد الشيوعي آنذاك هي التي دفعت اُولئك المفكِّرين الى اللجوء الى الدين كأنجع سلاح لا تمتلك أمامه تلك القيم الالحادية للنظرية الشيوعية شيئاً، بل وتبدو قباله عاجزة تافهة، وهو ما كان ولا زال يخشاه حملة تلك الافكار، والمروِّجين لها، حمقاً بعد افلاسهم.
وحقاً، فقد كان ذلك قراراً صائباً موفَّقاً لو انبعث من نوايا صادقة هدفها
اسعاد البشرية، ورفع الحيف عنها، بيد انَها اطروحة تفتَّقت عنها مخيَّلة جهة كانت ولا زالت مصدر محنة وبلاء، بل وعاصفة سوداء اُبتليت بها الانسانية عامَّة، والشعوب الاسلامية خاصة، وعلى امتداد التاريخ المعاصر، وحتى يومنا هذا، فكانوا بحق أسوأ بكثير ممَّن يستثيرون بالمسلمين والمسيحيين الههم لمواجهتهم.
ومن هنا فقد كان موقف الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى حاداً وصريحاً في رفضه لحضور هذا المؤتمر من خلال ما أرسله إلى المؤتمرين من جواب طويل أسماه (المُثل العليا في الاسلام لا في بحمدون) والذي أوضح فيه ـ بصراحة جلية ـ رأيه في مواضيع هذا المؤتمر وبحوثه، مبيناً ما توقعه السياسة الامريكية وحليفتها الانكليزية من ظلم وتجني على شعوب العالم المستضعفة المغلوبة، مع اشارته الواضحة إلى بُعد دعاة هذه السياسة ومباينتهم للقيم الروحية التي تدعو لها الأديان السماوية المختلفة، وإنَّ من يُنادي بتلك القيم يجب عليه أنْ يكون من أوَّل العاملين بها، والمؤمنين بحقيقتها، وذلك ما لا ينطبق على الدعاة لعقد هذا المؤتمر، والراعين له.
3 ـ اخماد فتنة الحصان
لعلَّه أمسى من بديهيات الأمور التي كادت لا تخفى على أحد ما راهن عليه البعض من المتسربلين زوراً بجلباب الاسلام والتقوى والصلاح من توظيف بعض المواقف السلبية والمتغرِّبة عن الواقع في طرح ومناقشة أفكار وعقائد الشِّيعة، والجوانب الأخرى المتعلِّقة بهم، كوسيلة فعالة ماكرة لبعثرة الصف الاسلامي الواحد، واشاعة ظاهرة التمزُّق والتشرذم والتنافر بين اُخوة الدين الواحد، وبالتالي توسيع الهوَّة الوهمية المفتعلة بين أفراد هذه الطائفة
والطوائف الاسلامية الأخرى.
هذا مع ما يتوخاه البعض من المتصيِّدين للسوانح الشاردة لطعن المسلمين من خلال امتطاء موجة الانفعالات التي قد تنفلت بديهياً وبأشكال مختلفة ومن جهات معينة في اشاعة الاضطراب والفوضى والغوغائية ـ المتسرِّبة من خلال ذلك ـ في جوانب المجتمع الشِّيعي المستدرج ـ بخبث وسوء طوية ـ نحو هذا الفخ القاتل، وذلك ما لم يعد خافياً على أحد.
نعم، ولعلَّ ما أحدثه كتاب (العروبة في الميزان) لعبدالرزاق الحصان(1) الذي نُشر عام (1351 هـ ـ 1933 م) من فتنة ـ حيكت أطرافها من قِبل بعض الأيادي المراهنة على تمزيق وحدة الصف الاسلامي ـ كانت عظيمة عمدت إلى استدراج عوام الناس ودفعهم إلى اشاعة الفوضى والاضطراب في عموم المدن العراقية انذاك، من خلال اثارة واستفزاز مشاعر عموم الشِّيعة هناك بسبب ما سُطِّر في هذا الكتاب السقيم من تفاهات وترهات باطلة ترتكز على جملة افتراضات متهرِّئة منها الطعن بانتماء الشِّيعة في العراق، والذهاب الى القول بانَّهم أجانب عن هذا البلد ودخلاء فيه ينبغي التصدي لاقصائهم عنه، حين تراه يشيد بدور الامويين الوسخ، وأياديهم الملطَّخة بدماء المؤمنين.
إنَ هذا الموقف المستهجن والممجوج من قِبل مُسطِّر هذه الوريقات الصفراء الباهتة كان لابدَّ له من أنْ يثيرشجون وأحاسيس عموم الشِّيعة الذين اُتيح لهم قراءة هذا الكتاب، أو طرق سمعهم شيءٌ من عباراته السقيمة هذه،
____________
(1) قال الزركلي في أعلامه (3: 352): عبدالرزاق بنِ رشيد بن حميد الحصان، البغدادي الكرخي، مؤرِّخ للقومية العربية، أثار بعض كتبه نقداَ شديداً في بغداد.
من كتبه العروبة في الميزان، قامت بسببه تظاهرات احتجاج، وسُجن مؤلفه أربعة أشهر.
رحل إلى الكويت والى السعودية، وتوفي غريباً في فندق بالكويت.
فاعلنوا الاضراب العام في العديد من مدن العراق الكبرى كبغداد والمحلة والديوانية والناصرية، وكان أشده في مدينة النجف الاشرف، لما لها من قدسية متميِّزة في قلوب الشِّيعة، فتعطَّلت الأسواق، وساد الهيجان فيها، لا سيَّما وقد تسرَّب اليها العديد من القبائل الهائجة المحيطة بها.
بيد أنَّ الأمور لم تجري على منوالها الطبيعي، حيث انظم في صفوف الملتاعين من سماجة وصفاقة هذا الكتيب التافه العديد من ذوي المآرب الفاسدة والمنحرفة، من الذين امتطوا موجة الأحداث لاشاعة الفوضى والاضطراب، والتعدي على حرمات الناس وممتلكاتهم.
فضجَّ العقلاء من رجال الشِّيعة وعلمائها بالصبغة الغريبة التي كانت تؤججها وتروج لها أيادي أجنبية ماكرة، يقابلها ضعف السلطة عن مواجهة هذه الظاهرة المحتدمة والمتفجِّرة، وكان انذاك السيِّد جعفر حمندي حاكماً ادارياً في النجف، فحاول جاهدآَ الحد من تفاقم هذا الأمر دون جدوى، فاضطر به الحال أنْ يتصل بالعديد من كبار العلماء وفضلاء الحوزة وأعيان النجف الذين توجهوا نحو المرقد الطاهر للامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام في محاولة يائسة منهم لانهاء هذا الاضطراب، وهذه الفوضى المستحدثة، إلا أنَّهم أخفقوا في تدارك هذه الأحداث الوخيمة، والحد من توسعها، ولم يجدوا من عموم الجماهير المضطربة اذاناً صاغية، ونفوساً مستجيبة، فلم يجد الجميع بداً من التوجه إلى الشَيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى، لما يدركونه من عظيم منزلته في قلوب الناس، بل وما يمتلكه من قدرة عجيبة في التحكُّم بمشاعرهم واحاسيسهم، وتلك والله نعمة كبيرة، وفضل من الله جسيم يمن به على من يشاء من عباده المتقين.
وهكذا، فلم يكد يحطه زوّاره من رجال الحكومة، وفضلاء الحوزة، وأعيان المدينة بتفاصيل الأمر ـ رغم تحذيرهم له من خطورة الموقف، وشدة
تازمه ـ حتى نهض من فوره بطلعته المهيبة، وخطواته المتسارعة الرصينة نحو المرقد المطهر للامام علي عليه السلام، وكان ذلك وقت الزوال، فاشرف على الناس طالباً منهم حفظ الهدوء وترك الفوضى ريثما يعود للتحدُّث معهم بعد فترة لشرح ملابسات هذه القضية ومداخلاتها.
والحق يقال: إِنَ حضّار هذا الحدث الكبير ـ الذي عسر على الجميع التحكُّم باندفاعاته الرهيبة، وتعقّداته المتشابكة ـ لتنتابهم الحيرة في تفسير علَّة تحكُّم هذا الرجل بعواطف الناس، وقدرته الفائقة في توجيه مشاعرهم، وبهذا الشكل الغريب، حيث يذكرون أنَّه رحمه الله تعالى ارتقى المنبر عصراً بتان وروية، ثم أرسل نظراته الثاقبة تجوس في الجموع المحيطة به، والتي ران عليها الصمت والسكون وهي تحدق بمرجعها الكبير الذي لم يلبث أنْ شرع بحديثه معهم، مطلقاً عباراته الدقيقة الحساسة، والمنحدرة كالسيل الهادر من أعالي الجبال، مبرهناً على خطأ وفساد هذه التصرُّفات الضارة التي أخذت تصطبغ بها ظاهرة الاحتجاج هذه، وما يمكن أنْ تشكِّله من اثار سيئة مخالفة للموقف الواجب اتخاذه أمام هذه الاساءات المقصودة.
نعم، ذكر المعاصرون الذين شاهدوا باعينهم تفاصيل هذه الواقعة: بان الشَّيخ كاشف الغطاء ما أنْ انفلت عن المنبر حتى عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي، وأُعيد فتح الأسواق، واُزيلت مظاهر الاضطراب والفوضى من عموم المدينة وما جاورها، وكانَّ شيئاً لم يكن، وباءت تجارة المراهنين على تمزيق هذه الاُمة وبعثرتها بالكساد والخسران.
4 ـ موقفه من العادات المنحرفة
لا تخلو جميع المجتمعات البشرية من وجود جملة متفاوتة من العادات الغريبة الشاذة والدخيلة التي يتشبَّث بها العوام ومعدومي الثقافة من
أفراد تلك المجتمعات، والتي قد تتحوَّل بمرور الأزمنة في أذهانهم إلى طقوس عبادية لا ينفك البعض منهم عن التعبُّد بها، والذب عن حماها، بما يمتلكه من قدرات وامكانيات، وذلك أمر طالما كنّا ولا زلنا نعاينه في نقاط وبقاع مختلفة من هذه المعمورة.
وإذا كانت بعض تلك العادات لا تشكِّل بمجموعها أثراً سلبياً وضاراً بتلك المجتمعات المذكورة، أو الاساءة إلى معتقداتها، والتوهين بها، فإنَّه لا غضاضة في غض النظر عن وجودها واستمرارية العمل بها، بيد أنَّ الأمر إذا تحوَّل في حقيقته إلى ممارسات شاذة وسلبية، وكثيرة الضرر بتلك المجتمعات وعقائدها، فإن في التسامح عنها جفاءً للعقل والمنطق والفطرة، واستسلاماً مردوداً قبال استشراء الجهل والتخلُّف.
هذا عند الحديث عن عموم المجتمعات البشرية، والتي قد لا تحكم بعضها مُثُلٌ سماوية، وعقائد الهية، فكيف إذا تعلَّق الأمر بالمجتمعات الاسلامية التي يعمل الدين الاسلامي على تشذيب وتهذيب سلوكيات أفرادها، واعدادهم لأنْ يكونوا عناصر خير وعطاء في هذه الأرض.
نعم، إنَّ العقيدة الاسلامية المباركة التي استطاعت أنْ تخلق من المجتمع البدوي الجاهل في أرض الحجاز اُمَّة تخمل الخير والعطاء لكلِّ الشعوب الغارقة في الجهل والتخلَّف والانحراف، تحمل في طيّاتها التنافر الصريح والحاد مع تلك العادات التي أشرنا اليها، وهذا ما لا خلاف فيه، إلا من المعاندين والمغالطين.
ثم فإنّا إذا أشرنا لما تصنَف في خانته بعض تلك العادات الشاذة والدخيلة، فإنَّ البعض من المتعبِّدين بها جهلاً وعمداً يجرهم العناد والمكابرة إلى مواقف حادة سلبية من دعاة الاصلاح والتشذيب، متوسِّلين بحجج واهية ساذجة قد تنطلي على بعض العوام الذين ربما يشتط بهم
جهلهم إلى الاساءة والتوهين باولئك المصلحين من العلماء والمفكِّرين، وهذا ما يدفع البعض إلى ان يناى بنفسه عنه رغم ما يعترم فيها من سخط وغيض.
ومن هنا فإنَ من الجلي الواضح أنَّ في التصدي لتلك العادات المتأصلة في تلك النفوس عملية تستلزم وقفة شجاعة وصريحة لا يمتلكها الكثيرون لما ذكرناه من نتائج متوقعة بما يمكن ان تشكِّله ردود الفعل من مخاطر المعارضة والتكفير والتسقيط التي لا بُدّ وأنْ تلجأ إليها تلك الفصائل التي انجرفت في ذلك التيار بحسن نية أو سوء قصد، إلا انها ـ أي تلك الوقفة ـ ورغم كلِّ شيء فإنَها ـ وحقاً وصدقاً أقول ـ تورث صاحبها شرفاً عظيماً، وفخراً كبيراً، مع ما فيها من الأجر والمثوبة التي يدخرها الله تعالى له إلى يوم الحساب.
ولعلَّ من نِعَمِ الله تعالى على الشِّيعة أنْ لا يخلو علماؤهم من اُولئك الرجال الأفذاذ المتمسكين بالمنهج الحقيقي لأهل بيت العصمة عليهم الآف التحايا والسَّلام.
والحق يُقال: أنَ الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كان نموذجاً واضحاً من أصحاب تلك المواقف العقائدية الشجاعة التي خلِّفت له الثناء والاطراء أبد الدهر.
فمن العادات السيئة والشاذة التي تفتَّقت عنها أذهان الجهلة، وروَّجت لها العقول والنفوس الفاسدة، وزمَّر لها أعداء الشِّيعة، ونسبوها ظلماً اليها، ما اعتاد بعض العوام على فعله آنذاك، وبالتحديد في الأيام العشرة الأولى من شهر ربيع الأول من القيام بالكثير من التصرُّفات المنكرة المؤذية للناس، والمشينة للدين، وبشكل بغيض ممقوت متواصل تطبَّعت نفوسهم عليه، وتشرَّبت به لتكرره طوال عشرات أو مئات السنين، وكان الكثيرون من علماء
الدين المخالفين والمعارضين لهذا المنهج المنحرف ـ في أثناء اقامة تلك الاحتفالات والمناسبات المختلفة ـ يتحاشون التصدي لمنع اُولئك الجهلة عن منكراتهم هذه للاسباب التي ذكرناها سالفاً، رغم استيائهم البالغ ممّا تَشكِّله من اساءة بالغة للتشيُّع وأئمته، فانبرى الشَّيخ كاشف الغطاء بشجاعة قلَّ نظيرها لمنع تكرر ايقاعها ـ رغم تحذير الكثيرين له من مغبة التصدي لها ـ وتحريم الاتيان بها، وايضاح ضررها على التشيُّعِ، وتوهينها بالمذهب بشكل صريح سافر يتصيَّده أعداؤهم ومبغضيهم، فوفقه الله تعالى في مسعاه أيّما توفيق، وانقاد الجميع لارادته، وقُبِر الكثير من تلك العادات السيئة التي كانت كالبقعهّ السوداء في ثوب التشيُّع الأبيض الذي هو بريٌ منها، ومتنزِّه عنها.
5 ـ لقاؤه مع الدكتور أحمد أمين
لعلَّ من المحن الكبرى التي اُبتليت بها الشِّيعة وطوال حقب مترادفة من القرون ما انفكت تواجهه وتُنبز به من تهم وتقوُّلات بعيدة عن الصحة، ومتغرّبة عن أرض الواقع، اعتماداً من قِبل متقوِّليها على آراء جاهزة، أو فهم سطحي لا يُعتد به، أو غير ذلك من الأسباب والحجج التي لا تبرئ قائليها من تصنيفهم في خانة العاملين على تمزيق هذه الاُمة وبعثرة صفوفها، وباساليب ومناهج مختلفة، باطلة الدعوى، سقيمة الحجة، وذاك ما لا يخفى على الباحثين والمتتبعين، وهذه كتب الشِّيعة لا يعسر على أحد مطالعتها وادراك حقيقة ما ذكرناه.
ولقد كان الدكتور أحمد أمين(1) ـ رغم مكانته العلمية التي عرف بها ـ
____________
(1) راجع ترجمتنا له في الملاحق الخاصة بالتراجم.
عينة صادقة من تلك الحالات السلبية التي اُبتليت بها الشِّيعة، وتصدَّت لابطالها.
فالدكتور المذكور ـ وذلك ممّا يؤسف له ـ قد تعرض وبشكل سافر غريب طعناً واساءة لعموم الشِّيعة وعقائدهم دون دليل علمي يرتكز عليه، أو حجة واقعية يستند اليها، فوقع نتيجة ذلك في المضيق، وحمَّل نفسه ما لا تطيق، وهذا ما تجده واضحاً عند مراجعتك لمقدمة كتابنا هذا.
وعموماً فانَّ هذا الدكتور ـ وبعد أنْ أطلق تقوُّلاته المذكورة ـ كان قد شدَّ الرحال نحو مدينة النجف الاشرف مع البعثة المصرية المؤلَّفة من بعض الأساتذة والباحثين، وحيث ألقوا رحالهم فيها ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك عام (1349هـ) واطَّلعوا عن كثب على المناهج العلمية الرصينة التي تدرَس في حوزتها، والمكانة الرائعة والمهيبة لعلمائها وأساتذتها، واستقرءوا عياناً الكثير من آراء الشِّيعة ومعتقداتهم، بعد أنْ أمضوا ردحاً من الزمن وهم يتلقونها عن الوسطاء والغرباء، من المستشرقين والمخالفين للشِّيعة، ويسلّموا بصحتها دون مراجعة أو تفحُّص.
ومن ثمَّ فإنَّ تلك البعثة كان لا بُدَّ لها من أنْ تتشرَّف بلقاء الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى، وزيارة مدرسته العلمية، ومكتبته الفخمة، فكان لذلك عظيم الأثر في نفوسهم، وحيث بوغتوا بما لم يتوقعوه ـ وذلك قصور فيهم لا في الاخرين ـ معلنين ذلك بصراحة لا مواربة فيها.
ولقد كان لقاء الدكتور أحمد أمين بالامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة مليء بالجوانب العلمية الصريحة التي أفاضها في حديثه شيخنا المرحوم، والتي دلَّت على عظم مكانته العلمية، وقوة استحضاره، وذكائه المفرط.
وقد أوردت مجلِّة العرفان في مجلدها الحادي والعشرين، وفي
قال سماحته ـ بعد ترحيبه بالوفد المصري ـ مخاطباً الدكتور أحمد أمين:
من العسير أنْ يلم بأحوال النجف وأوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلمية المهمة ـ شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة، فإنَّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة، ومكثت فيها مدة ثلاثة أشهر متجوِّلاً في بلدانها، باحثاً ومنقباً، ثم فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً، اللَّهم إلا قليل ضمنته أبياتاً أتذكَّر منها:
تـَبزغ ُ شَـمــس العلى وَلكنْ | مِنْ اُفقِها ذلك البــــزوغُ |
ومثـلـما تـنـبــغ الـبرايا | كـذا لـبلدانــها نــبـوغ |
أكـثـرُ شــيء يـَروجُ فيها | اللــهــو والزهو وَالنزوغ |
قال: نعم، وقبل أنْ ينبغ ـ طه حسين، ويبزغ سلامة موسى، ويبزغ فجر الاسلام، وقد ضمَّنتَه ـ مخاطباً أحمد أمين ـ من التلفيقات عن مذهب الشِّيعة ما لا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتباعه.
فاجاب أحمد أمين: ولكنه ذنب الشِّيعة أنفسهم، إذ لم يتصدوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه ! !.
فقال الشَّيخ: هذا كسابقه، فإنَ كتب الشَيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من كتب أي مذهب اخر، وبينها ما هو مطبوع في مصر، وما هو مطبوع في سوريا، عدا ما هو مطبوع في الهند، وفارس، والعراق، وغيرها، هذا فضلاً
عما يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.
فقال أحمد أمين: حسناً، سنجهد في أنْ نتدارك ما فات في الجزء الثاني ! !.
ثم واصل أ حمد أمين قوله مخاطباً سماحة الشيخ كاشف الغطاء: هل يسمح لنا العلاّمة في بيان العلوم التي تقرأوها ؟
فاجاب الشَّيخ: هي علوم النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والحكمة، والكلام، وأُصول الفقه، وغيرها.
فقال أحمد أمين: ما هي كيفية التدريس عندكم ؟
فأجاب الشَّيخ: التدريس عندنا على قسمين:
1 ـ سطحي، وهو أنْ يفتح التلميذ كتاباً من كتب العلوم المتقدِّمة بين يدي اُستاذه، فيقرأ له هذا عبارة الكتاب، ويفهمها التلميذ، وقد يعلِّق عليها ويورد ويعترض، ويشكل ويحل، وغير ذلك ممّا يتعلَّق بها.
2 ـ خارج، وذلك أنْ يحضر عدة تلاميذ بين يدي الاستاذ، فيلقي عليهم الاستاذ محاضرة تخص العلم الذي اجتمعوا ليدرسوه، ويكون هذا غالباً في علوم الفقه والاصول والحكمة والكلام، مع ملاحظة أنَّ التلميذ بكلا القسمين يكون ذا حرية في ابداء آرائه واعتراضاته وغيرها.
فقال أحمد أمين: إنَّ البعثة تودُّ أنْ تسمع لبحثكم، فهل أنتم فاعلون ؟
عندها لم يبد الشَّيخ اعتراضاً، بل أجاب برحابة صدر طلب البعثة، وارتقى المنبر، فاجتمع حوله من حضر الجلسة من تلاميذه، مشاركين الوفد في الاستماع لكلامه.
ولمّا كان الشَّيخ على غير سابقة عهد بالأمر، وعلى غير تهيئة وتمهيد لنوع العلم الذي سيبحث فيه، لذا تركوا له الحرية في اختيار العلم، ومن أجل هذا يرى القارئ الكريم أنَّ البحث الاتي ذا فصلين: فقه وأصول،
وعقائد. وهو موافق لرغبة الوفد.
ومن ثم فقد ابتدأ سماحته خطبته مرتجلاً فقال:
تشتمل هذه الآية على عقدين: عقد سلب، وعقد ايجاب، أمّا عقد السلب(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ) فهو من الأساليب القرآنية التي اخترعها وارتجلها في الاستعمالات العربية، ولم تكن معروفة من ذي قبل.
وقد تكررت هذه الجملة في الكتاب الكريم، فهي تارة: تتعلَّق بالأفعال مثل قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ)(2) وقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلاً)(3) وقوله تعالى: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأنتمْ سُكارى)(4) ويكون المراد منها حينئذٍ على سبيل الاستعارة بالكناية: المبالغة في التحذير عن ارتكاب ذلك الفعل ـ الزنا ـ والصلاة مع السكر، أو غير ذلك... وشبَّه اسم المعنى باسم العين فحذَّر من قربه، فكيف بملاصقته أو الدخول فيه ! !.
واُخرى: تتعلَّق بالأعيان، مثل قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبا هذهِ الشَّجَرَةَ)(5) وقوله تعالى: (انَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ
____________
(1) الانعام 6: 152.
(2) الانعام 6: 151.
(3) الاسراء 17: 32.
(4) النساء 4: 43.
(5) البقرة 2: 35.
الحَرامَ)(1) .
ومن هذا القبيل آية العنوان التي هي من براعة الصنعة وابداع البيان بمكان، وحيث أنَّ النهي لا يتعلَّق بالأعيان رأساً، بل لا بدَ من توسيط فعل مقدَّر في البين يناسب تلك العين، فإذا قيل: حرمت أُمهاتكم عليكم، يعني: العقد عليهن، وإذا قيل: حرمت الخمر، يعني: شربها، واذا قيل: حرِّم الميسر والقمار، يعني: اللعب بهما، وهكذا يُقدَر في كلِّ مكان ما يناسبه، بل أظهر ما يتعلّق به من الأفعال التي تُطلب من تلك العين، وممّا هي معدة له، فلا يراد من قول (حرمت الخمر) حرمة كلِّ الأفعال التي يمكن أنْ تتعلَّق بها، فيحرم لمسها أو النظر اليها أو التداوي بها وهكذا... كلا، بل ليس المراد إلا حرمة شربها.
وعليه فيكون المراد والمعنى بالآية التي في العنوان: لا تتصرفوا في مال اليتيم التصرُفات المطلوبة عند العقلاء من مال التجارة في بيع، أو شراء، أو صلح، أو رهن، أو ادانة، أو غير ذلك.
والغرض أيضاً بهذا النحو من البيان شدة التحذير، والنهي عن التصرُف في مال اليتيم، وأنَّ قربه لا يجوز، فكيف الوقوع فيه ؟!
وليس المراد النهي بوجه عام عن التقرب لمال اليتيم، بحيث يكون المعنى والمقصود النهي عن المعاملة بمال اليتيم بوجه مطلق من رفع أو وضع أو فعل أو ترك إلا بالتي هي أحسن، أمّا حيث لا تريدون التصرُّف فلا شيء عليكم، وإنْ كان التصرف أحسن بخلافه على الوجه الثاني فان مفاده لزوم التصرُف بالأحسن يؤِّيد الحكم الضروري من حرمة التصرف بمال الغير مطلقاً صغيراً أو كبيراً بغير اذنه، وليس هو المقصود أصالة بالبيان بالضرورة،
____________
(1) التوبة 9: 28.