وانَما المقصود عقد الايجاب، وهو اعطاء الرخصة بالتصرُّف في مال اليتيم إذا كان في التصرُّف مصلحة، فيكون مخصصاً لما دلَّ على عموم حرمة التصرُّف في مال الغير، انَّما الكلام في مقدار تلك الرخصة وحدودها حسبما يستفاد من الآية، فإنَّ محور البحث والنظر يدور من هذه الجهة على تشخيص المراد من لفظ (الاحسن) وهل هو من أفعال التفضيل نظير: الصلاة خير من النوم ؟ أو صفة مشبهة نظير: النوم خير من الله ؟ !

وعلى الأوَّل، فهل المراد الأحسن بقول مطلق ؟ أي ما لا أحسن منه، أو الأحسن نسبياً أي الأحسن من تركه وإنْ كان غيره أحسن منه ؟

وعلى الثاني، فهل المراد منه ما اشتمل على مصلحة ؟ أو يكفي خلوِّه عن المفسدة، بناءً على أنَّ كلَّ ما ليس بحرام فهو حسن ؟

ثم لما انتهى الكلام إلى هذا المقام طلب بعض الحضور تغيير الموضوع ونقل البحث إلى مسألة من المسائل الاعتقادية وأساسيات أُصول الدين، فاوصل سماحته الكلام اقتضاباً من غير روية ولا تمهل، ونقل البحث إلى مسألة الحاجة إلى الانبياء وضرورة البعثة فقال:

إنَّ النظر في عامة أحوال البشر يدل على أنَّ أوضح صفاته، وألصقها فيه، وأقدمها عهداً به، هي الخلال الثلاث التي لا يجد عنه محيصاً، ولا منها مناصاً، مهما كان، ألا وهي: الجهل، والعجز، والحاجة، وهذه الصفات هي منبع شقائه، وأصل بلائه، وكلما توغَّل الانسان في العلم والمعرفة تطامن للاعتراف بما توصَّل اليه من العلم بعظيم جهله، وأنَّ نسبة معلوماته إلى مجهولاته نسبة القطرة إلى المحيط، وكان أكبر علمه جهله البسيط.

وقد سئل أفلاطون حين أشرف على الرحلة الأبدية عن الدنيا فقال: ما أقول في دار جئتها مضطراً، وها أنا أخرج منها مكرهاً، وقد عشت فيها


الصفحة 82

متحيِّراً، ولم استفد فيها من علمي سوى أنني لا أعلم.

وقال سولون الحكيم: ليس من فضيلة العلم سوى علمي بانِّي لا أعلم.

ومن استقصى كلمات حكماء اليونان وغيرهم وجد لكلِّ واحد منهم مثل هذه الكلمات. والتشبُع بهذه الروح السارية إلى متضلع في الفضيلة، متشبِّع بروح الفضيلة، من علماء الاسلام وحكمائهم، حتى قال الشافعي:

وَإذا ما ازدَدتُ عِلماً زادَني عِلماً بِجَهلي
والرازي يقول:

نــهايةُ إدراكِ العُقولِ عتالُ وَغايَة سَعي العالَمينَ ضلالُ
وَلَمْ نَستَفدْ مِنْ بَحثِنا طولَ عُمرِنا سوى أن جَمعنا فيهِ قيلَ وقالوا
حين أنَّ علماء الغرب وكبار المخترعين الذين حورَّوا الدنيا إلى هذا الشكل العجيب يعترفون بعدم وصولهم إلى حقائق الأشياء، فهم وإنْ اخترعوا الكهرباء لا يعرفون حقيقتها، هذا فضلاً عن الروح والنفس والحياة، وهذا مجال لا يأتى عليه الحصر.

فالانسان عريق بالجهل، لصيق بالعجز والحاجة، ولا شقاء ولا بلية إلا وهي منبعثة اليه من ذلك، وعقول البشر بالضرورة غير كافية لرأب هذا الصدع، ونأي هذا الثلم، وسد هذا العوز، فالعناية الأزلية التي أوجدت هذه الخليقة لو تركتها على هذه الصفة تكون قد أساءت اليها بايجادها، وما احسنت الصنيع بنعمة الوجود عليها، ولكان الاحرى لو تركتها في طوامر العدم، وأطمار الفناء، ويكون ذلك نقضاً للحكمة، وافساداً للنعمة.


الصفحة 83

اذاً فلا بُدَّ من ايجاد رجال كاملين في أنفسهم، مكمِّلين لغيرهم، يكونون كحلقة الاتصال بين الخالق والمخلوق، وهمزة الوصل بين العبد والربِّ ـ فإنَ السعادة منه واليه ـ وأولئك هم السفراء والأنبياء الذين بهم تتم الحجة، وتستبين المحجة، وحينئذٍ تكون سعادة كلِّ انسان وشقاؤه باختياره، قال تعالى: (وَهَدَيناهُ النجدَينِ)(1) وقال: (انّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وَإمّا كَفُوراً)(2) وتكون حينئذٍ لله على الناس الحجة البالغة.

نعم، وكل هذا موقوف على اثبات الصانع الحكيم، المنزَّه عن العبث والظلم، فضلاً عن الجهل والعجز.

وهناك أدلى الشَّيخ بالحجة، وأملى اُصول البرهنة على وجود الاله تعالى الحق بعدة قواعد لا يساعدنا ضيق المجال لسردها وعدها تفصيلاً، ولكن نكتفي بالاشارة اليها على وجه الاجمال:

1 ـ قاعدة: أنَّ ما بالعرض لا بدَ وأنْ ينتهي إلى ما بالذات.

2 ـ أنَّ معطي الشيء لا يكون فاقده.

3 ـ أنَّ الصدفة في النواميس الدائمة الكلِّية والأشياء المتكرِّرة مستحيلة.

4 ـ امكان الأشرف.

5 ـ قاعدة اللطف.

وأمثال ذلك من أُمهات قواعد الحكمة وأُصول الفلسفة الحقة.

ثم ارتأى في هذا المقام أنْ يختم البحث لضيق الوقت، وهكذا كان.

وعندما نزل الشَّيخ من المنبر دارت بينه وبين أحمد أمين الأحاديث

____________

(1) البلد 90: 10.

(2) الانسان 76: 3.


الصفحة 84

الآتية:

سأله أحمد أمين: هل الاجتهاد عند الشِّيعة مطلق أو مقيَّد ؟

فاجابه الشيخ: الاجتهاد عندنا مطلق، يستنبط كلًّ مجتهد الأحكام الشرعية من نفس الكتاب والسنَة، غير مقيَّد بكلام مجتهد آخر مهما كان، ولكن على أُصول وقواعد مقررة عند الجميع، وهي القواعد التي يتكفَّل بها علم أُصول الفقه، وهذه القواعد بعضها متفق عليه عند الجميع، وبعضه أيضاً موضع نظر واختلاف، فتكون اجتهادية أيضاً، ولكلِّ مجتهد فيها رأيه الخاص الذي يبرهن ويبني عليه طريقة الاستنباط.

فقال أحمد أمين: ما هي الأدَّلة التي يبتني عليها الاجتهاد عندكم ؟

فرد عليه الشَّيخ: هي الكتاب، والسنَّة، ونعني بالسنَّة الأخبار الواردة عن المعصومين.

فقال أحمد أمين: هل هناك شيء يعارضها ويتقدَم عليها ؟

فقال الشَّيخ: كلا لا يعارضها شيء، ولا نرفع اليد عن الخبر الصحيح المعتبر إلاّ إذا كان مصادماً لضرورة العقل الفطري، كما لو ورد خبر بجواز شهادة مؤمن لأخيه المؤمن في دعوى يدَّعيها على الغير مع عدم علم الشاهد بتلك الدعوى، وإنْ كان عالماً بان ذلك المدعي لا يدعي باطلاً، فإنَّ مثل ذلك الخبر لا نعمل به مهما كان.

فقال أحمد أمين: هل يوجد تعارض في أخبار الأئمة ؟

فاجاب سماحة الشيخ: نعم.

فقال أحمد أمين: كيف يتناقض كلامهم مع أنَّكم تشترطون فيهم العصمة؟

فاجابه الشَّيخ: لا تناقض في الجوهر، وإنَّما التناقض في الأخبار الواردة عنهم، أو في ظواهر كلماتهم، أمّا في الحقيقة لا تعارض ولا تناقض،


الصفحة 85

وإنَّما هو اختلاف في ظاهر الكلام، كالاختلاف الذي يوجد في ظاهر الكتاب الشريف وهو القرآن العزيز، قال تعالى: (فَيَومَئذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جَانٌ)(1) وقال عز ُّشانه: (وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤولونَ)(2) ولكل وجهة خاصة.

وعلى الجملة: فحال السنَّة والأخبار كحال الكتاب الكريم، فيه النص والظاهر، والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والحكم الواقعي والحكم الظاهري، والأحكام المؤقَّتة التي تقتضيها الأوقات والظروف والأحوال والحوادث الزمنيَّة، وتقابلها الأحكام المؤبدة التي لا تتغير بتغير الأحوال وتبدل الزمان.

ووظيفة المجتهد الفقيه ـ البالغ تلك المرتبة السامية، والملكة الراسخة ـ هي تمييز بعضها عن بعض، والجمع بين متعارضاتها، ورد بعضها إلى بعض، واستخراج العلل والأسباب التي أوجبت ذلك التعارض، واستنباط الحكم الصحيح حسب القواعد من مجموعها. أمّا التعارض والتناقض الواقعي حسب الحقيقة والجوهر فهو مستحيل عندنا بعد البناء على عصمة الأئمة.

فقال أحمد أمين: ما الدليل على عصمة الأئمة؟

فرد الشيخ: حكم العقل الضروري.

فهش واستبشر، وكان طلب من الشَّيخ البيان والايضاح، فقال سماحته: إنَّه بسيط جداً، وأنا سائلك: ما الحكمة والغاية من ارسال الرسل، وانزال الكتب ؟

____________

(1) الرحمن 55: 39.

(2) الصافات 37: 24.


الصفحة 86

فقال أحمد أمين: الهداية والارشاد والتهذيب.

فقال له الشَّيخ: اذن فهل يحصل الارشاد من شخص يقول: لا تكذب وهو يكذب ؟ ولا تشرب الخمر وهو يشرب الخمر؟ ولا تزن وهو يرتكب الزنا ؟

وهل يحصل الغرض، وتتم الفائدة من الهداية من شخص يجوز عليه الغلط، والغفلة، والنسيان، والاشتباه ؟ ! لا شك في أنَّ الجواب بالسلب.

واذا كان ارسال الرسل، وبعث الانبياء واجباً بالحكمة حسب العناية الأزلية، فالعصمة أشد لزوماً، وأقوى وجوباً، وإلا بطل الغرض، وماتت الفائدة، وانتقضت الحكمة.

فسأله أحمد أمين: ما الدليل على انفتاح باب الاجتهاد عندكم ؟

فاجابه الشيخ: وما الدليل على انسداده ؟ ! وأيَّة آية أو خبر تدل بالحجر على العقول، والضغط علن الأفكار، وسلب هذه الحرية الفكرية التي منحها الله تعالى لعباده، وكانت من أفضل نعمه على خلقه ؟!.

غاية ما هناك أن الله سبحانه وتعالى رأفة بالعباد، ورفعاً لمشقة الاجتهاد، ورعاية لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية، ووجوب قيام كلِّ طائفة لشأن من الشؤون الضروَرية، فتتوزع الأعمال، و تتبادل المنافع، لذلك كلِّه رفع وجوب الاجتهاد عن كلّ فرد من المكلَّفين، وأطلق لهم السراح في ذلك، فجعل وجوبه كفائياً، وأجاز رجوع العامَّة إلى المجتهدين وتقليدهم في اُمور الدين. أمّا من أنفت نفسه، وسمت همته عن حطة التقليد وخطة الاتِّباع، وأراد أنْ يأخذ الحكم من دليله على قواعد الفن والصناعة، فأيّ دليل على منعه وحجر ذلك عليه ؟! وهل نجد عاقلاً في الدنيا يمنع عن العلم ويأمر بالجهل ؟ وإنَّ مذهباً يكون هذا الحكم من دعائمه وقواعده أحرى بان يسمى مذهب الجهالة والتضليل، ومن آراء العصور المظلمة، وبقايا أديان الجاهلية والاستبداد، هذا أمّا دين الاسلام فهو أرفع وأنصع من ذلك، ولو لم يكن دليل


الصفحة 87
على شرف مذهب الشِّيعة، وصحة قواعده وأُصوله الا هذا لكفى.

6 ـ دوره في المؤتمر الاسلامي العالمي في القدس

لقد كان ما اتسم به الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى من دور متميِّز بارز في الذود عن حياض الاسلام، والدفاع عن حريمه، سمة مشخَّصة لدى علماء المسلمين وزعمائهم، حتى اصبح طوداً شامخاً في هذا المضمار، وشخصت نحوه أبصار الجميع، مع اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وتشكِّل أمزجتهم وميولهم.

ومن هنا فما أنْ تجسَّدت فكرة(1) عقد مؤتمر اسلامي عام في مدينة القدس الشريفة على أرض الواقع، حتى بادرت لجنة المؤتمر إلى توجيه دعوة ملحة للشَّيخ رحمه الله تعالى للمشاركة في هذا المؤتمر الهام الذي تقرر أنْ تعقد جلساته الموزعة على أيامه العشرة ابتداءً من ليلة المعراج في 27 رجب عام 0 35 1 هـ (7 كانون الاول 1932 م) وأنْ يكون هدف هذا اللقاء ـ كما ذكر ذلك الحاج أمين الحسيني لصحيفة السياسة القاهرية انذاك ـ هو: البحث في نشر أساليب التعاون الاسلامي، ونشر الثقافة الاسلامية، والدفاع عن البقاع المشرَّفة الاسلامية، والعمل لوقاية الدين الاسلامي وصيانة عقائده من شوائب الالحاد، وتأسيس جامعة اسلامية في بيت المقدس، والنظر في قضية الخط الحديدي الحجازي.

وكان من الطبيعي أنْ يستجيب الشَّيخ لهذه الدعوة الملحة، رغم ايمانه بأنْ ترجمة آمال المسلمين تكمن في صدق النوايا

____________

(1) قيل انّ أول دعوة صدرت لعقد هذا المؤتمر كانت من الزعيم الهندي الاسلامي شوكت علي في 4/12/1931.


الصفحة 88

المقترنة بالأعمال الجادة العاملة على توحيد صفوفهم، ونبذ خلافاتهم، وتشخيص علَّة تفرُّقهم لمعالجتها، لأنَّها هي الوسيلة الأنجع، والسبيل الأقوم للنهوض بهذه الاُمة المبتلاة بهذا الداء الوبيل الذي بدأنا نرى ثماره واضحة وجلية في أيامنا هذه من التسابق المحموم من قِبل الكثير من الساسة المسلمين للصلح مع الكيان الصهيوني اللقيط، ومد جسور العلاقة معه.

نعم، لقد استجاب الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى لطلب مشاركته في ذلك المؤتمر، فشد الرحال نحو مدينة القدس الشريفة ـ التي كانت ولا زالت تحتل في ضمائر وقلوب المسلمين الكثير من الحب والتقديس ـ في ليلة الأوَّل من شهر رجب، حيث استقبل من قبل جميع العلماء المشاركين في ذلك المؤتمر، يتقدمهم مفتي القدس الشيخ الحسيني، وكذا أعيان ووجهاء فلسطين آنذاك.

والحق يقال: أنَّ تواجد الشيخ كاشف الغطاء في ذلك التجمع العظيم كان حافلاً، ومؤثراً، بل واستقطب أنظار الجميع بعلمه وبلاغته وغيرته على هذا الدين الحنيف، فطلب منه في احدى الليالي المفتي الحسيني، ومفتي نابلس الشيخ محمَّد تفاحة ـ وكان من أكبرعلماء فلسطين سناً ـ ومراقب المسجد الاقصى، أنْ يرتقي المنبر بعد صلاة المغرب لالقاء خطبة في الحاضرين الذين بلغ عددهم سبعين الفاً امتدت صفوفهم حتى خارج المسجد الاقصى.

ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا جزمنا بانَّ هيبة هذا المؤتمر، وحساسية ظروفه، لا بُدَّ أنْ تدفع بالكثيرين إلى الاعتذار والتنصُّل عن القيام بهذا الأمر اذا فوجئوا به على حين غرة ودون استعداد، كما فوجئ بذلك الشيخ رحمه الله تعالى، وبوغت به، وكان بديهياً أنْ يعتذر عن ذلك لما يمكن أن يشكِّله من حرج يقدح بشخصيته ومكانته، كما سجَّل لنا التأريخ في


الصفحة 89

صفحاته المطوية عن مواقف مشابهة للعديد من الشخصيات المعروفة التي حصرت فوق المنابر فلم تنبس بشفة، أو لم تتمكَّن من تركيب جملة مفيدة واحدة.

نعم لقد فوجئ الشَّيخ رحمه الله تعالى بهذا الطلب المتعجِّل، بيد أنه وأمام الحاح مضيفيه لم يجد بداً من الامتثال لرجائهم، والاستجابة لرغبتهم بما عُرف عنه من أخلاق رفيعة وأدب جم، فارتقى المنبر ـ أمام أعين الحاضرين التي شخصت نحوه، وتعلَّقت به، وأصاخت لكلماته بسمعها ـ بسكينة ووقار، وافتتح خطبته بقوله تعالى (س(سبحان الذي أسرى بعَبْدِهِ لَيلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرام إلى المَسْجِدِ الأقصى الذي باركنا حَوَلهُ)(1) واسترسل في الحديث حول تلكَ البركة وأنواعها بشرح وافٍ، بيان ساحر، مشيراً إلى أنَّ انعقاد مثل هذا المؤتمر هو شكل من أشكال تلك البركة بقوله: ومنها هذا الاجتماع الخطير من الجم الغفير، من مختلف الأقطار النائية، والذي لم يخطر على البال، ولم يقع في التصوُّر، واستوفى ما هو الغرض منه، وما الهدف الذي يرمي اليه، والآثار المترتِّبة عليه... إلى آخره.

وبعد أنْ أنهى خطبته ـ التي سحرت المستمعين بحلاوة ألفاظها، وسلاسة عباراتها، وجزالة كلماتها ـ طلبت منه لجنة المؤتمر وأكابر الموجودين أنْ يأتموا به في صلاة العشاء حيث صوِّب ذلك بالأكثرية، فاستجاب لهم، واقتدت به الالوف من الصفوف في حدث عظيم قل نظيره.

كما أنَّ للشِّيخ كاشف الغطاء في أيام انعقاد المؤتمر مشاركات واسعة، وخطب بليغة، ولقاءات متعددة تركت في أذهان الجميع ذكريات

____________

(1) الاسراء 17: 1.


الصفحة 90

شجية عن شخصية فذة عاصروها من علماء الشِّيعة الكبار.

7 ـ موقفه من نوادي التبشير

إنَ استقراء ودراسة الدور الذي لعبته وتلعبه نواديَ التبشير المبثوثة في نقاط مختلفة من الأراضي الاسلامية يبيِّن بوضوح البعد التخريبي والخبيث الذي تلجأ اليه هذه النوادي في سعيها المحموم من أجل نشر وترويج أفكارها وعقائدها المنحرفة والمردودة عقلاً.

نعم إنَّ الحوار العلمي يشكَل قاعدة سليمة يمكن من خلالها الرسو على مبدأ صحيح يسلَّم بصوابه واحقانيته العقلاء، بيد أنَّ ما تلجأ اليه هذه النوادي ـ التي تحركها أصابع ونوايا معلومة للجميع ـ لا يمكن أنْ نصنِّفه ضمن هذه الاعتبارات الصحيحة، لاعتمادها على أساليب الكذب والافتراء والخداع، وهذا ما حاول ويحاول مفكرو المسلمين ايضاحه وكشف أبعاده.

ولعل الثابت المتفق اليه ترادف انشاء تلك النوادي مع الغزو الاستعماري الذي تقوم به الجيوش الأجنبية ـ المنتسبة لها تلك النوادي ـ لتلك الدول المبتلاة بها، من خلال انتهازها لظروف التخلُّف والفقر القاهرة، والتي نجدها عياناً في كثير من الدول الآسيوية والافريقية النامية.

واعتماداً على صحة هذا التصوُّر، فقد كانت العديد من الدول العربية المسلمة ـ ابان خضوعها للاحتلال الاوربي المقيت ـ أرضاً مشرعة الأبواب أمام تلك النوادي التي ألقت فيها رحالها واستقرت.

بيد أنَ هذا الظرف المؤقت لم يكن مواتياً تماماً لرواد هذه الدعوات التبشيرية، حيث كان يتصدى لدعاواهم هذه ـ رغم ما تتمتع به هذه النوادي من حصانات واسعة المدى ـ جملة من العلماء والمفكِّرين الذين أغاضتهم حالات الدجل والافتراء التي تعتمدها وسائل تلك النوادي في تسريب


الصفحة 91

أفكارها، بعيداً عن المنطق والحجة الصحيحة.

ولعلَّ شيخنا كاشف الغطاء رحمه الله تعالى كان واحداً من اولئك الأعلام الذين تنبهوا لمدى انحراف دعوات مروجي تلك الافكار، وخطرها على المجتمعات الاسلامية.

ولمّا كانت مصر ـ تلك الدولة المسلمة التي تحتل في قلوب المسلمين مكانة متميِّزة ـ مرتعاً خصباً لتلك النوادي ابان تلك الحقبة السالفة، وذلك ما كان يغيض قلوب المصلحين من علماء ومفكري المسلمين، فكان الشَّيخ كاشف الغطاء يستغل تواجده في هذا البلد ليتعرض بالرد، وتفنيد دعاوى خطباء تلك النوادي.

ولقد كان يروى عنه رحمه الله تعالى أنَه كان ينحدر صوب أكبر تلك النوادي بجرأة وشجاعة ويتصدى لمقاطعة الخطيب الذي لا ينفك عن الكذب والافتراء والطعن بعقائد المسلمين دون دليل أو حجة.

حتى أنَّه في احدى المرات لم يدع لذلك الخطيب(1) فرصة لمواصلة تقولاته وافتراءاته دون أنْ يجبهه برد يربكه ويلعثمه، فلم يجد قسيسهم الأكبر مناصاً من التوسُّل به للتوقف عن ذلك مقابل السماح له بالتحذُث بعد من على منصة الخطابة، فرضي بذلك رحمه الله تعالى، ووجدها فرصة سانحة لابداء الحق أمام هذا الملأ، وإعلاء كلمته.

وبعد انتهاء خطيبهم من هذره الممجوج تقدَم الشيخ رحمه الله تعالى نحو منصة الخطابة، وشرع في خطبة رائعة مؤيَدة بالأدلة العلمية المتينة، مثبتاً من خلالها بطلان دعاوى هذا الخطيب، وكذب ما افتراه على القرآن وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى الاسلام، ومتعرِّضاً من خلالها

____________

(1) قيل هو منصور القبطي.


الصفحة 92

الى تفنيد العقيدة التي يدعو لها لابتنائها على أمرين: أحدهما مستحيل عقلاً، وهو التثليث، وثانيهما مخالفته للعقل والمنطق من خلال التسليم لخرافة لا تستسيغها أبسط العقول، وهي الاعتقاد بأنَ الاله قد سلَّط عباده الأشقياء على نفسه فصلبوه ليكفِّر خطيئة أبيهم آدم ! وخطيئة بني ادم ! وليصير بعد ذلك ملعوناً لأنَّه قال: ملعون كل من يُصلب على الخشبة، كما هو منصوص في أناجيلهم ! !

ثم استفاض رحمه الله تعالى في ذكر تناقضات الأناجيل، وما فيها من الخرافات والمهازل، والتي أشار إلى بعض منها في كتاب التوضيح في ما هو الانجيل، ومن هو المسيح عليه السلام.

ولمّا وجد اولئك المبشِّرون أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قد اتى على كلِّ دعاواهم فأبطلها، وكل تقولاتهم ففنَدها، أصابهم الارتباك، وانتابهم هوس واضطراب، وهم يتأملون بحنق وغيظ استرسال هذا الشيخ الجريء في حلِّ عرى أكاذيبهم واحدة بعد الأخرى بمهارة وتمرُس عجيبين، مستلباً حواس وعقول الجالسين الذين تعلَّقت أنظارهم به، وشخصت نحوه، فلم يجدوا بداً من الاشارة اليه بالتوقف عن خطبته وترك المنصة، فلم يعرهم رحمه الله تعالى اهتماماً، وواصل خطبته، والجموع اليه مصيخة مذعنة.

عندها انفلت الشر من عقاله في تلك النفوس الفاسدة، وتآمروا على المكيدة بالشًيخ رحمه الله تعالى وقتله، فبادروا إلى اطفاء الأنوار، وإثارة الفوضى في المجلس بعد أنْ اندفع جماعة منهم نحو منصة الخطابة لتصفية الشيخ وتدارك الأمر قبل استفحاله، إلأ أنَ ارادة البارئ جل اسمه كانت فوق كيدهم، فانسل الشًيخ بهدوء مندفعاً نحو الخارج تاركاً اياهم في اضطرابهم يتخبطون.

نعم، لقد بقىِ هذا الموقف الشجاع للشيخ كاشف الغطاء وسام شرف


الصفحة 93

يحق لجميع المسلمين التفاخر به، بجميع مذاهبهم ومشاربهم، لأنَّه يمثل الغيرة الصادقة على هذا الدين الذي يحاول أعداؤه متشبثين تمزيق أوصاله، وبعثرة أشلائه، بجد واجتهاد، حين يقف البعض متفرجاً دون أنْ يبدي أي رد فعل أو اعتراض، ناهيك بمن أمسوا على هذا الدين وأهله أشد كَلَباً من أعدائه ومبغضيه.

8 ـ الشَّيخ كاشف الغطاء والتقريب

لعلَّه لم يعد خافياً علن أحد أنَ سر محنة هذه الأمّة، ومصدر كلِّ بلائها يكمن في تكريس حالة التشتت والتمزِّق التي تُفرض عليها من قِبل المراهنين على جراحها وآلامها، والتي تطفح في أحيان عديدة على جسدها أوراماً تنزف دماً وقيحاً تقشعر له جلود المخلصين من هذه الاُمة ومحبيها.

نعم إنَّ ما نعاينه من اختلاف يعمد البعض في قواميسه إلى وسمه بانه حالة اختلاف وتباين حادة، لا يمكن بأي حال من الأحوال التسليم قطعاً بصحته، ولا الاقرار بصوابه، رغم تهويله والمبالغة به من قِبل ذلك البعض، لأنَّه يحمل في طياته جذور المخالفة القطعية للمنطق والصواب، والجفاء الحاد عن الحقيقة التي لا يعسر على الباحثين اداركها وتلمسها.

إن حالات الالتقاء والتقارب الثابتة بين المذاهب الاسلامية المختلفة، والتي اشرنا اليها سابقاً هي من الحد الذي يجد المرء قباله تلاشي الفواصل الوهمية التي ما تنفك بعض الجهات الفاسدة والمنحرفة من العمل الدؤوب سعياً وراء توسيعها وتضخيمها، بحجج وذرائع مختلفة.

وحقاً أقول: إنَّ ادراك حقيقة هذا الأمر ببعديه الايجابي والسلبي اللذين ذكرناهما هو ما يستحث بالمخلصين من علماء ومفكري هذه الاُمة السعي الجاد لرأب ذلك الصدع، ولَم ذلك الشتات، رغم صعوبة


الصفحة 94

المخاض، وعسر الخطب، كنتيجة منطقية لتقادم السنين، وترسُب العديد من الاعتقادات النفسية السلبية الظن بالاخرين، والبعيدة كلّ البعد عن أرض الواقع، وحقيقة العقائد التي تحاول الانتساب اليها.

ولقد شهدت الشعوب الاسلامية ـ وطوال حقب مترادفة ـ نماذج صادقة من تلك الجهود والنوايا الصادقة، التي تشكل اُمنية عظيمة سامية تتعلَق بها قلوب جميعِ المخلصين من رجال الأمّة، لعلماء ومفكرين وباحثين أنفقوا شطراً كبيراَ من حياتهم سعياً وجهداً دائبين في هذا الميدان المقدس والعظيم.

والحق يقال: إنَ شيخنا كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعة كان من كبار رواد هذا الميدان المبارك من خلال سعيه الدؤوب المتواصل في التقريب بين المذاهب الاسلامية، من خلال مؤلَفاته، وخطبه، ومذكراته، ومواقفه المتكررة الموشية، بحالة القلق والتوجس المرير الذي ينتابه من استمرار حالة الاُمة على ما هي عليه من الاختلاف والتنافر والتقاطع رغم شدة التقارب ووضوحه بين مذاهبها(1) ؟

____________

(1) فمن نداء له رحمه الله تعالى كتبه أيام مرضه الذي أودى بحياته ـ وكان حينها راقداً في مستشفى الكرخ ـ ووجَهه إلى الطوائف الاسلامية في البحرين ـ نشرته جريدة اليقظة بتأريخ 4/1954/7 ـ يقول فيه

بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الَذينِ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ حق تقاتهِ وَلا تَموتُن إلا وَأنْتُمْ مُسلِمُونَ * واعتَصِمُوا بِحَبل اللهِ جَميعاً وَلا تَفرَقُوا وَاذكرُوا نِعْمَة اللهِ عَلَيكُمْ إذ كُنتم أعداء فَالفُ بَينَ قُلُوبِكُم فَاصبَحتم بنِعْمَتِهِ إخواناً) [ آل عمران 3: 102 ـ 103 ].

كل ذي حس وشعور يعلم أن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى الاتفاق والتآلف، وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وأنْ ينضم بعضهم الى بعض كالبنيان المرصوص، ولا يدعوا مجالاً لأيَ شيء يثير الشحناء والبغضاء، والتقاطع والعداء، فانَ كل ما يقع من هذا القبيل بين المسلمين في الوطن الواحد، أو في أوطان متباعدة هو أعظم سلاح

=>


الصفحة 95

ولا اُغالي إذا ذهبت إلى القول بانَّ حياة الامام كاشف الغطاء كانت موقوفة في اقامة صرح الوحدة الاسلامية المباركة، ونبذ الاختلاف، والالتفات إلى ما يحيط بهذه الاُمة من أخطار جسيمة، وما يدبره لها اعداؤها من مكائد ودسائس ومؤامرات، وباشكال ومسارب مختلفة، يصطبغ بعضها بالوان باهتة يراد منها خداع السطحيين والساذجين من رجال هذه الأمَّة، وجرهم إلى المزيد من المواجهة والاقتتال في ميادين وسخة غير نزيهة، حين ينخر اعداؤهم ذلك البنيان العظيم الذي وضع لبناته الأولى نبي الرحمة محمَّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله، وشاد صرحه الصادقون من رجال هذا الدين والذين يتقدمهم أهل بيت العصمة عليهم السَّلام.

بيد ان البعض ـ وذلك غير خاف على أحد ـ لم يكن تروقه تلك الدعوات الصادقة الصادرة من القلب، والمرتكزة على قواعد الاسلام الحنيف، حيث كان يعمل بمعاول الهدم في ذلك البنيان المقدس، وباسم الدفاع عن الاسلام ! والذود عن حريمه ! وما ذلك إلا عين النفاق ومرآة الانحراف(1) .

____________

<=

للمستعمرين، بل هو قرة عين لهم. وما نشبت مخالب الأجانب في الممالك الاسلامية والبلاد العربية إلا بإلقاح الفتن بينهم، واثارة النعرات الطائفية والاقليمية فيهم، يضرب بعضهم ببعض، ويذيق بعضهم بأس بعض، وتكون للمستعمر الغنيمة الباردة، والربح والفائدة والخسران والوبال علينا.

(1) الغريب أنْ تجد ـ ورغم كلِّ ما بادر ويُبادر اليه العديد من أعلام الطائفة ومفكريها من خطوات جادة، ودعوات صادقة للتقريب والتقارب بين المذاهب الاسلامية ـ جملة من النفوس السوداوية المشخَّصة الارتكاز ـ التي لا ترعوي أمام كلمة الحقِّ، ولا تصيخ له سمعاً ـ تعمد جاهدة لقلب الحقاثق أمام ناظري المسلمين بصلافة وسماجة يصاحبهما اصرار عجيب على تلك المواقف الخاطئة والمنحرفة، والتي لقت الاُمة الاسلامية منها الكثير من المصائب والويلات.

=>


الصفحة 96

نعم، ورغم كل ذلك فإنَّ استقراء السيرة الذاتية لشيخنا رحمه الله تعالى يبين بوضوح جده واجتهاده في مواصلة هذا المسير المقدس والشاق

____________

<=

وأقول بصدق: إنَ القلم قد يشتط بصاحبه بعيداً إذا أطلق له العنان في هذا المرتكض الواسع والكبير، والمليء بالحسرة بالألم، بيد أنْ لا بد له من أنْ يكبح جماحه ما استطاع ذلك، نئياً عن الوقوع في المزالق التي يريد ذلك البعض دفع الآخرين اليها بمكر وخبث.

ومن هنا فقد جهدت في أنْ اكتفي بمجرد الاشارة العابرة إلى شيء من تلك المواقف المشينة للبعض من المتاجرين زوراً باسم الاسلام، وعقائده العظيمة، من التي لا يجد المرء لها إلا تفسيراً واحداً وهو العمل على تمزيق وحدة المسلمين، وتكريس حالة التنافر المصطنعة الخبيثة بينهم، من التي أمكن لأعداء هذا الدين التسللُ من خللها ومنافذها الواسعة وضربه في أكثر نقاطه حساسية وخطورة.

نعم، فانَ من يتامَّل ـ مثلاً ـ صفحات كتاب الجبهان الموسوم بـ (تبديد الظلام) يجد عين هذه الحقيقة ماثلة للعيان، بل ولا بد له ان ينتابه الذهول وهو يتنقل بين اسطره وصفحاته التي سؤَدها بالكثير من العبارات المليئة بالسباب والفحش من القول، ومن الذي قد يتنزه بعض السوقة عن التلفظ به أمام جمع من الناس، ناهيك عن كتاب يدعو فيه صاحبه ظلماً وبهتاناً الى حماية الدين والذود عن حرماته.

ولعل الفصل الخاص الذي افرده الجبهان لمناقشة كتابنا هذا كان من السقم والتلاعب بالألفاظ حداً لا يعسر على اي طالب مبتدئ في العلوم الحوزية ان يتصدى لمناقشته وتفنيد دعاواه، والقامه حجراً يخرسه ويوقفه عن هذره الممجوج، بيد ان اي شخص اخر لا يستطيع ان يجاري الجبهان في ما استهدف به شخص الشيخ كاشف الغطاء من السباب والكلام البذيء والعبارات الفاحشة، التي نتزه عن حتى مجرد الاشارة اليها

بلى لقد كان جزاء الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى من الجبهان ومن لف لفه ـ من الساعين في اذكاء الفتن وتأجيجها بين المذاهب الاسلامية المختلفة، وبأسم الدين ـ هذا الجزاء، معرضين بصلافة عن سيرة هذا الرجل الذي أوقف حياته في العمل على التقريب بين المسلمين، والذود عن حرماتهم، والدفاع عن مقدساتهم، بل وجاب البلاد الاسلامية طولاً وعرضاً، داعياً الى نبذ الخلاف، وتوحيد الكلمة، وأنْ يحب المسلم أخاه المسلم كحبه لنفسه، لا فرق بين مذهب واخر، ولا بين طائفة واُخرى.

نعم لقد كان جزاؤه من الجبهان فحش القول، وبذيء الكلام... فهل تجد أصدق مقوله تعبّر عن هذه الحالة إلا قول القائل: وكل اناء بالذي فيه ينضح ؟.

الصفحة 97

رغم ما كان يلقاه من صدود ولا مبالاة من قِبل الكثيرين، ذلك ما كان يؤلمه أشد الايلام، حتى لقد قال في احدى كلماته: ولا لوم على مثلي لو تشائم واستولى عليه اليأس والقنوط بعد تلك الخطب الفياضة الملتهبة التي ألقيتها على الجماهير المكتظة في عواصم الاسلام: كالقدس، وبيروت، ودمشق، وجامع البصرة، ومسجد الكوفة، وبغداد، والتي طبع غير واحد منها، كخطبة القدس التاريخية، وخطبة الاتحاد والاقتصاد، والخطب الاربع، وغير ذلك.

ألقينا كلَّ هذه وأضعافها شعلة ملتهبة في حث المسلمين والعرب على الوحدة والاخلاص، وما يلزم عليهم لجمع شتاتهم، واستعادة مجدهم، وقلنا كلمتنا المشهورة: إنَّ الاسلام يرتكز على دعامتين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وذكرنا كيف ينبغي أنْ يتحد المسلمون في مقدمة رسالتنا (أصل الشيعة) وأنَّ كلَّ ذلك ذهب مع الريح، فكانَ الحوار كان مع جدار، أو كأنَّما كنّا نخطب على أصنام وأحجار، وإلا فاين الآثار(1) ... ؟ !

ومن ثم فإنَّ المرء عندما يتأمَّل في هذه العبارات الملتاعة يدرك مدى تمكًّن حرص صاحبها على وحدة المسلمين في قلبه، وسريانه في شرايينه وأوردته... ولا غرابة في ذلك فلقد عهد منه المسلمون المعاصرون له تلك الرغبة المخلصة والصادقة في سلوكه وقوله، وقد تقدَّم منّا الحديث عن بعض ذلك، فراجع.

وللحقيقة أقول: إنَّ دراسة دور الشَّيخ كاشف الغطاء في عملية التقريب بين المذاهب الاسلامية تستلزم الكثير من الاستقراء العلمي الرصين والمتأنِّي لجملة مؤلَّفاته، وكلماته، وخطبه، ورحلاته، وغير ذلك، وذلك ما لا يسعنا خوض غماره في هذه العجالة، ومن خلال هذا المدى

____________

(1) راجع كتاب في السياسة والحكمة: 109.


الصفحة 98

المحدود.

فالتاريخ المعاصر قد سجَّل لنا الكثير من الاشارات ذات الدلالات الواضحة في سعيه نحو التقريب، والتي تتطلَّب من العاملين في هذا الميدان المقدس دراستها بشكل علمي رصين، وعرضها كاطروحة متقدِّمة تبين للاجيال القادمة حرص العديد من علماء الشِّيعة على توحيد الكلمة، ورص الصفوف.

ولعلَّ من المواقف الملفتة للنظر في هذا المنحى العظيم ما لجأ اليه الشَّيخ كاشف الغطاء رحمه الله تعالى برحمته الواسعه أثناء احدى سفراته التي القى فيها رحاله في أرض مصر المسلمة، حيث واظب على حضور مجلس درس شيخ الجامع الأزهر آنذاك وهو الشَّيخ سليم البشري(1) رحمه الله تعالى لمدة ثلاثة اشهر، وكذا مفتي الحقانية الشيخ محمَّد بخيت المطيعي، الذي يقول عنه سماحته: لم أجد في مصر عالماً محقِّقاً مثله، يباحث اُصول الفقه عصراً في جامع رأس سيدنا الحسين عليه السَّلام، والتفسير بين المغرب والعشاء في الأزهر، وله مؤلَّفات كثيرة طُبع أكثرها.

____________

(1) صاحب المراسلات المشهورة مع الامام عبدالحسين شرف الدين رحمه الله تعالى (ت 1377هـ) والمسطَرة في كتاب المراجعات ذائع الصيت.

ولد في محلة تبشر بمحافظة البحيرة المصرية عام (1248هـ ـ 1832م).

درس في الجامع الأزهر وتخرج منه وُعد من أساتذته الكبار.

تولن مشيخة الأزهر مرتين، امتدت الاولى منذ عام (1317هـ ـ 1900م) إلى عام (1320هـ ـ 1904م) حين امتدت الثانية منذ عام (1327هـ ـ 1909م) إلى عام (1335هـ ـ 1916م).

له جملة مؤلفات منها: حاشية تحفة الطلاب لشرح رسالة الآداب، وكتاب الاستئناس في بيان الاعلام وأسماء الأجناس.

توفي عام (1335هـ ـ 1916م).


الصفحة 99

نعم، وفي الجانب الآخر فقد كان الشَّيخ يرى وهو يباحث للكثير من طلبة الأزهر وغيرهم في الفقه الشِّيعي مرة، وفي الفصاحة والبلاغة مرة أُخرى، بشكل استقطب أنظار الجميع، وحاز اعجابهم واحترامهم.

وأخيراً اكرر وأقول: إن دور الشيخ كاشف الغطاء في التقريب هو أوسع من أنْ تحتويه وريقات محدودة، أو تستوفيه دراسة متعجِّلة، ونحن لم نتعرض لها هنا بوضوح قدر ما أردنا منها اشارة عابرة، ولمحة خاطفة، سائلين المولى جلَّ اسمه أنْ يوفقنا لاستيفاء حق هذا الأمر في دراسة مستقلة وافية، إنَّه الموفق لكلِّ خير.


الصفحة 100

مؤلَّفاته

لا نغالي بشيء إذا قلنا بأنَ للعديد من علماء هذه الطائفة باعاً كبيراً، ويداً طولى في البحث والتأليف، والتجديد والابداع، متخطِّين الحدود التقليدية التي بقي البعض يدور في خللها، ويقتات من فتاتها، فيبتدأ وينتهي حيث ما ابتدأ منه.

وإذا حفظت لنا صفحات التأريخ اسماء العديد من اولئك الأعلام البارعين المبدعين امثال الشَّيخ المفيد والشَّيخ الصدوق والشَّيخ الطوسي والعلاّمة الحلي رحمهم الله برحمته الواسعة، وكذا غيرهم من العلماء الأفذاذ، فإنَّ من حقِّ ذلك التأريخ أنْ يُزين صفحاته تلك بذكر سيرة ومؤلَّفات عالم فذ شهد قرننا الحالي ابداعاته ونتاجاته المتعددة المشارب والأشكال.

نعم لقد أبدع يراع الامام كاشف الغطاء رحمه الله تعالى في اغناء المكتبة الاسلامية بالجم الكثير من المؤلَّفات القيَّمة، والبحوث الرائعة في شتى العلوم والمعارف الاسلامية المختلفة، بشكل قلَّ نظيره، وتضاءل مثاله.

وسنحاول من خلال هذه الأسطر استعراض ما أمكننا حصره من مؤلَّفاته تلك، بأبوابها وعلومها المختلفة، المطبوعة منها والمخطوطة، دون اسهاب أو تفصيل.

1 ـ في الحكمة والكلام:

أ ـ الدين والاسلام: (أربعة أجزاء، طُبع منها جزءان).

ب ـ المراجعات الريحانية (جزءان).