<=
الفرق المختلفة باتهامهم البعض للآخر، والطعن فيه وتكفيره، بل واشتداد حدة هذا الخلاف بينهم حتى تصل في أحيان عدة الى وقوع صراعات دموية مؤسفة أريقت فيها الدماء، واستبيحت فيها الاموال والاعراض ! !
بلى إنَ ذلك كان مما يروق لاؤلئك الحكّام ويثلج صدورهم، بل ومداعاة لاطالة أمد حكمهم، وتلك حقيقة لا يعسر على أحد تلمُسها وادراكها. من خلال مراجعة الفترة الزمنية التي شهدت ولادة العديد من تلك الفرق ابان القرن الهجري الثاني وما بعده، وانضواء الكثيرين واتَباعهم لزعماء تلك المذاهب ومفكريها، وبالتالي توظيف امكاناتهم المختلفة في الدفاع عن هذه عقائد ورد عقائد الاخرين وتوهينها.
هذا في الوقت الذي كان فيه الائمة من أهل البيت عليهم الَسلام وأتباعهم يواصلون جهدهم الرصين في خدمة هذا الدين الحنيف، حيث كانت تعج مدارسهم ومجالسهم ـ في الكوفة والبصرة وبغداد ـ بالألاف من الطلبة والدارسين، ويتزايد عدد شيعتهم ومريديهم بشكل بين أقلق المراكز الفاسدة وأعوانها، بل وحتىِ رموز بعض المذاهب الاسلامية المختلفة مع الاسف الكثير، فكانوا في أحيان كثيرة عوناَ مع السلطة الظالمة على اخوانهم في الدين، فتاضل.
ثم إنَّ الملفت للنظر كون حدة ذلك الصراع الفكري آنذاك كانت على أشدها بين مدرستين كبيرتين هما: الاشاعرة، والمعتزلة، وحيث تتلخص قضية ذلك الخلاف في جمود المحدثين والفقهاء على النص، وعزلهم العقل عن الدين، بل وتجريده عن جميع صلاحياته الثابتة والتي نادت بها جميع الاديان، حين كان يقابلهم ـ على الضد ـ موقف المعتزلة المفرط في تحكيم العقل، وبالشكل الذي أثار الطرف الآخر، فحدثت بينهما هذه الفجوة الرهيبة.
هذا والحكّام يجدون في ذلك الامر تدعيماً لاركان حكمهم، وتثبيتاً لملكهم، فوقفوا إلى جانب الاشاعرة ـ بعد أنْ كانوا ميّالين إلى المعتزلة ومقربين لهم ـ وتبنوا آرائهم، وطعنوا في آراء الاخرين بعد أنْ أقرُّوا أربعة من المذاهب الفقهية الاسلامية وأعرضوا عن غيرها.
إنَّ هذا الموقف المتعجرف دفع إلى الظل بالكثير من الآراء والعقائد الأخرى، وبالتالي تهيئة المجال لخدم السلطة والمتحجرين من أتباع المذهب الذي تؤمن به السلطة إلى الطعن بعقائد الآخرين، وتزييف الكثير من الحقائق والثوابت، وتركيز جملة مشوشة وهجينة من الاطروحات الباهتة، ومن ضمنها هذا الخلط الواضح بين عقائد الشِّيعة الامامية وبين عقائد المعتزلة.
=>
...................................................
____________
<=
فالاُصول الخمسة التي تشكَل أساس مذهب الاعتزال ـ والتي هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكرـ تترتَّب عليها دون شك جملة مفاهيم وتصورات تشكِّل القاعدة العقائدية للمعتزلة، والتي تبدو عند مقارنة الكثير منها بآراء الامامية شديدة التباين، واسعة الاختلاف، وَلعلَّ من جملة تلك الآراء المنبعثة عن تلك الاُصول، والتي خالفهم بها الامامية، وتعرَّضوا لهم فيها بالمناقشة والابطال: قولهم بانَ الاشياء كانت قبل حدوثها أشياء، والجواهر أيضاً كانت في حال عدمها جواهر، وكذا هو حال الاعراض والالوان والحركات.
ومن ذلك أيضاً: قولهم بان الانسان هو الذي يصنع أفعاله بنفسه، متوافقين في ذلك مع القدرية، وذاهبين فيه إلى التفويض.
ومن ذلك ايضاً: ما ذهبوا اليه من أنَّ الوفاء بالوعيد واجب على الله تبارك وتعالى، خلاف الامامية الذين يذهبون إلى عدم وجوبه.
ومن ذلك ايضاً: قولهم بأنَ مرتكب الكبيرة بين الايمان والكفر، وأنَّه يُخلَد في النار، حين إنَّ الامامية يذهبون إلى اعتباره مؤمناً فاسقاً مستحقاً للعقاب على قدر ما أجرم. يضاف إلى ذلك جملة واسعة من الاختلافات الجوهرية في مسائل الصفات، والحسن والقبح العقليين، ووجوب اللطف، والشَّفاعة، والتي شغلت في مؤلَّفات أصحابنا رحمهم الله تعالى مساحات واسعة، وجوانب مهمة، بل إنَّ العديد من أعلام الطائفة أفردوا العديد من مؤلَفاتهم للرد على عقائد المعتزلة ابان تلك الحقب السالفة والتي شهدت فترة الاحتدام، والصراع الفكري والعقائدي بين عقائد الفرق الاسلامية المختلفة، أمثال شيخنا المفيد رحمه الله تعالى (ت 413 هـ) حيث ألَف كتاباً في الرد على الجاحظ المعتزلي، وآخر في نقض فضائل المعتزلة، وكذا كتابه الشهير (الفصول المختارة) وكتاب (الوعيد) وغيرها، وحيث تعرض رحمه الله تعالى برحمته الواسعة إلى إيراد جملة ارائهم التي خالفوا بها الشِّيعة في مطاوي كتابه الشهير المعروف بـ (أوائل المقالات) والتي كان من أوضحها: انكارهم
=>
ولو أردنا ضبط جميع سلاطين الشيعة، ومَنْ تقلَّد الوزارة والإمارة والمناصب العالية ـ بعلمهم، وكتابتهم، وعظيم خدماتهم للاسلام ـ لما وسعتهم المجلدات الضخمة والأسفار العديدة.
وقد تصدى والدنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ الى تراجم طبقات الشيعة، من علماء، وحكماء، وسلاطين، ووزراء، ومنجِّمين، وأطباء ـ وهكذا ـ الى ثلاثين طبقة، كلّ طبقة مرتبَّة على حروف المعجم، وسمّاه (الحصون المنيعة في طبقات الشِّيعة) فكتب عشرة مجلدات ضخام لم تخرج الى المبيضَّة، ومع ذلك لم يأت [ إلاّ ] على القليل منهم.
ولكنّا نريد ـ أنْ نقول لصاحب (فجر الإسلام): إنْ كان هؤلاء الَّذين ذكرناهم، وأضعاف أمثالهم مِن رجال الشِّيعة، الَّذين أسسوا علوم الإسلام،
____________
<=
وكذا هو حال سيدنا المرتضىِ رحمه الله تعالى (ت 436 هـ) والذي كان أبرز ما كتبه في ذلك كتابه الشهير (الشافي) رداَ على كتاب المغني لعبد الجبار المعتزلي. وغير ذلك، فتأمَّل.
راجع: أوائل المقالات: 45، كشف المراد: 261، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة: 239، مقالات الاسلاميين 1: 330، شرح المقاصد 2: 230، تأريخ المذاهب الاسلامية: 138، الملل والنحل 1: 43، مذاهب الاسلاميين: 40، شرح الاصول الخمسة: 625 وما بعدها، الملل والنحل من كتاب البحر الزخّار: 12، الحور العين: 204..
وشادوا دعائمه، وأحكموا قوائمه، إنْ كانوا هم الَّذين يريدون هدم الاسلام، وأنت واستاذك الدكتور وزملاؤكم هم الَّذين شيَّدوا الاسلام وأيّدوه ! ! إذاً فعلى الدنيا العفا، وعلى الاسلام السلام، ورحم الله فيلسوف المعرة حيث يقول:
إذا وصِفَ الطائيِ بِالبُخلِ ما دَر
إلى قوله: فَيا مَوت زُرْ إنَّ الحَياةَ ذَمِيمَةٌ...(1) .
وما كان شيء من كلِّ هذا من أصل قصدي، وصميم غرضي، ولكن جرى القلم به عفواً، وتمطّى على القول فيه قهراً، فعسى أن يعلم الكاتب من أبناء العصر ومن بعدهم ـ بعد ذا كيف يكتب، ويتصوَّر ماذا يقول، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام ـ وما أشرف مَنْ قال ـ:
«لسانُ العاقلِ مِنْ وراءِ قَلبهِ، وَقَلبُ الجاهِلِ مِنْ وَراءِ لِسانِهِ»(2) .
____________
(1) من قصيدة طويلة شهيرة كانت في زمنها محل جدل ونقاش، لكون المعري قد نسب إلى نفسه في هذه القصيدة أمراً عظيماً من العسير أنْ ينسبه أحد إلى نفسه، مطلعها:
ألا في سَبيلِ المَجدِ مَا أنا فاعِل | عَفاف وإقدام وَحَزم ونائِلُ |
تًـعـدُّ ذُنـُوبي عِـنـدَ قَومٍ كَثيرَةً | وَلاذَنبَ لي إلاّ العُلى وَالفَواضِلُ |
وَقَد سارَ ذكري في البِلاد ِفَـمَنْ لَهُم | بِإخـفاءِ شَمسٍ ضَوؤها مُتكامِلً |
يـُـهم اللَيالي بَعضُ ما أنا مُضمِر | وَيُثقِل رَضوى دونَ ما أنا حامل |
وَإنـي وإنْ كـنـت الأخيرَ زمانُهُ | لآتٍ بـمـا لم تستطعِهُ الاوائِل |
إذا وصفَ الطّائي بِالبُخلِ مادِر | وعيـرَ قـًـسّـا بالفَقاهَةِ باقلُ |
فَـيا مَوتُ زُرْ إنَّ الحَياةَ ذَميمَة | وَيا نَفسُ جِدّي إنَّ دَهرَكِ هازِلُ |
(2) نهج البلاغة للشيخ محمدعبده 4: 667/40.
=>
أمَّا قوله: «إنّ اليهودية ظهرت في التشيُّع بالقول بالرجعة» ! ! فليت شعري هل القول بالرجعة أصل من اُصول الشيعة وركن من أركان مذهبها حتى يكون نبزاً عليها، ويقول القائل ظهرت اليهودية فيها ! !
ومَنْ يكون هذا مبلغ علمه عن طائفة أليس كان الأحرى به السُّكوت وعدم التعرُّض لها. إذا لم تستطع أمراً فدعه.
وليس التديُّن بالرجعة في مذهب التشيُّع بلازم، ولا إنكارها بضار، وإنْ كانت ضرورية عندهم، ولكن لا يُناط التشيُّع بها وجوداً وعدماً، وليست هي إلاّ كبعض أنباء الغيب، وحوادث المستقبل، إشراط السّاعة مثل: نزول عيسى من السَّماء، وظهور الدجّال، وخروج السًّفياني، وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين وما هي من الاسلام في شيء، ليس إنكارها خروجاً منه، ولا الاعتراف بها بذاته دخولاً فيه، وكذا حال الرجعة عند الشَيعة.
وعلى فرض أنَّها أصل من اُصولهم، فهل اتفاقهم مع اليهود بهذا يوجب كون اليهودية ظهرت في التشيِّع، وهل يصح أن يقال إنّ اليهودية ظهرت في الاسلام لأنَّ اليهود يقولون بعبادة إله واحد والمسلمون به قائلون ؟ ! وهل هذا إلاّ قول زائف، واستنباط سخيف ؟ !
ثم هل ترى المتهوّسين على الشِّيعة بحديث الرجعة ـ قديماً وحديثاً ـ عرفوا معنى الرجعة، والمراد بها عند مَنْ يقول بها من الشِّيعة، وأي غرابة واستحالة في العقول أنّ سيُحي الله سبحانه جماعة من النّاس بعد موتهم،
____________
<=
وأي نكر في هذا بعد أنْ وقع مثله بنصِّ الكتاب الكريم، ألم يسمع المتهوّسون قصة ابن العجوز الَّتي قصها اللهّ سبحانه بقوله تعالى: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهمْ أُلوُفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أحياهُم...)(1) .
ألم تمرّ عليهم كريمة قوله تعالى: (وَيَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوجاً)(2) ، مع أنَّ يوم القيامة تُحشر فيه جميع الأمم لا من كلِّ أُمة فوجاً.
وحديث الطعن بالرجعة كان هجيري علماء السنَّة من العصر الأول إلى هذه العصور، فكان علماء الجرح والتعديل منهم اذا ذكروا بعض العظماء من رواة الشِّيعة ومحدِّثيهم، ولم يجدوا مجالاً للطعن فيه ـ لو ثاقته وورعه وأمانته ـ نبذوه بانَّه يقول بالرجعة، فكأنهم يقولون يعبد صنماً أو يجعل لله شريكاً ! ! ونادرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة معروفة(3) .
وأنا لا اريد أن أُثبت في مقامي هذا ـ ولا غيره ـ صحة القول بالرجعة، وليس لها عندي من الاهتمام قدر قُلامة ظفر، ولكنّي أردتُ أنْ أدلّ (فجر الاسلام) ! على موضع غلطه وسوء تحامله.
يقول: الشِّيعة تقول: «إنَّ النّار مُحرَّمة على الشِّيعي إلاّ قليلاً» ! ! وما أدري في أي كتاب من كتب الشيعة وجد هذا، وهل يليق برجل تربَّع على دست النقد والتمحيص للمذاهب والأديان أنْ يقذف طائفة من المسلمين بشناعة لا يأتي عليها منهم بشاهد ولا برهان، كيف وهذه كتب الشِّيعة كادت أن تًسمع حتى الأصم والأبكم.
____________
(1) البقرة 2:243.
(2) النحل 27: 83.
(3) راجع ذلك في ترجمتنا لمؤمن الطاق آخر الكتاب.
إنَّ الله سبحانه خلق الجنَّة لمن أطاعه ولوكان عبداً حبشياً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، ويروون عن أئمتهم عليهم السلام من أمثال ذلك ما يفوت حد الاحصاء(1) .
____________
(1) الغريب أنْ تجد من تبلغ به الغفلة أو السذاجة هذا الحد من الاسفاف والتطاول الاجوف على طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، لها اُصولها وعقائدها المعلنة والصريحة، والتي ليست هي في محاجر مكهربة، أو في أقبية سرية لا يطالها أحد ولا يستطيع الوصول إلى قراءة مضامينها باحث، بل هي بحمد الله تعالى تكتض بها المكتبات العامَّة والخاصة، وهي بمتناول الجميع دون استثناء، ناهيك بمن أراد التعرف عليها بصدق وحرص، فكيف بالله عليك تجد رجلاً مثل أحمد أمين وهو الكاتب المعروف يتخبط هذا التخبُّط المخزي وهو يتحدّث عن عقائد الشيعة، فتبلغ به الغفلة هذا الحد وهذا المستوى من الطعن الرخيص والباهت.. فمن أين له اثبات مُدعاه هذا، والذي يستثير حتى عوام الناس لا مثقفيهم فحسب، والذي يتناقض تناقضاً صريحاً مع مفهوم الشريعة الاسلامية التي ترتكز عليها العقائد الشيعية، بل وتنبعث منها. فمن لا يعلم أنَّ الايمان والعمل مقترنان كل واحد منها بالاخر، لان العمل هو الترجمة الواقعية للايمان، والتجسيد الفعلي له، بل ومن لا يعلم أنً لا نجاة يؤمئذ إلاّ بعمل وتقوى ؟!... نحن نعتقد أنَ من لا يقول بذلك غير عاقل، فكيف بالشيعة وهم يستقون علومهم من دوحة النبوة وشجرتها الوارفة، أي أهل البيت عليهم السلام، الذين هم ورثة رسول الله صلى الله عليه واله، وعدول القرآن، واُمناء الرسالة ! !
كما أنَّه ليس في الشيعة ـ من أدناها إلى أقصاها ـ من لا يعلم بذلك، وها أنت ترى الملتزمين منهم يصلّون، ويصومون، ويحجُّون، ويسارعون في الخيرات، ويجتنبون المحارم والموبقات.
بل وهذه كتب الامامية ـ التي لا عد لها ولا حصر ـ تنادي بتقوى الله تعالى واتباع أوامره. آلاف الاحاديث وآلاف الاخبارالمنقولة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كلها تنحو هذا المنحى الثابت الذي أشرنا إليه.
ثم ـ ولعل هذا الامر هوما فات صاحب فجر الاسلام وقد يفوت غيره إن اردنا أنْ نمنحهم العذر في ذلك ـ لعله قد طرق سمع الدكتور أحمد أمين، او قرأ بعض الاخبار المنقولة في جملة من المصادر الحديثية المنوِّهة بفضل الشِّيعة، والاشادة بمنزلتهم، فتصوّر أنَ الامر هذا يقع على كلِّ من تسمى باسم الشِّيعة، أي سريانه على كلِّ من يعده العرف شيعياً اسماً لا واقعاً... فاذا كان كذلك تصوره فانَّ هذا هو الداء العياء، والخلط العظيم.
=>
...................................................
____________
<=
نعم إن ائمة أهل البيت عليهم السلام قد بينوا ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة ومكان، من خلال العديد من الاخبار والروايات الصحيحة، والتي سنحاول أنْ نورد البعض منها ليطلع عليها من انخدع ببريق كلمات هؤلاء الكتّاب دون الرجوع للتثبت من صحة ذلك الى كتب الشِّيعة نفسهم، لا بالواسطة:
فقد روى الكليني في الكافي (2: 73) بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله لاصحابه: «الا تذهب بكم المذاهب، فو الله ما شيعتنا إلاّ مَنْ اطاع الله عز وجل»
وروى في موضع آخر (2: 74): بسنده عن جابر، عن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام قوله لجابر: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أنْ يقول بحبنا أهل البيت ؟! فو الله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون ـ يا جابر ـ إلاّ: بالتواضع، والتخشُع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصَوم، والصَّلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القران، وكف الالسن عن الناس، إلا من خير....
يا جابر، فوالله ما يُتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان الله مطيعأ فهو لنا ولي، ومن كان الله عاصياً فهو لنا عدو، ولا تنال ولاياتنا إلاّ بالعمل والورع».
وقوله عليه السلام (الكافي 2: 75): «ولله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا يُتقرب إلى الله إلاّ بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولاياتنا».
أقول: هؤلاء ائمتنا وسادتنا وقادتنا، بهم نهتدي، وبنور علمهم نقتدي، وهذا هو دينهم الذي ندين به، وهو الاسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله، بل وهذه هي أخلاقهم ليست بخافية على أحد، فهل لاحد أنْ يقول ما يخالف ذلك إلاّ ان يكون مغرراً أو كاذباً. فاذا كنا كشيعة نتلمَس خطا ائمة أهل البيت عليهم السلام، ونتبع هداهم، فان ذلك الامر يعني بالتالي اتباع الخط الالهي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله من قِبَل الله تعالى باتباع الدليل الذي أمرنا به هو صلى الله عليه واله باتباعه، وحثنا على التمسك به دون تسمية غيره، أو مجرد الاشارة اليه، وإلى ذلك يشير بوضوح قوله صلّى الله عليه واله: «إنِّي تارك
=>
نعم باب الشَّفاعة من النَّبي والأئمة عليهم السلام لبعض المذنبين باب آخر، ولعل القول بالشَّفاعة في الجملة من ضروريات مذهب السلام(1) .
وأيضاً نُعيد ما قلناه قريباً، وإنِّه لو تنازلنا وأفترضنا أنَّ الشِّيعة تقول ذلك، فهل يصح بهذا أنْ يقال [ بأنَّ ] التشيُّع أخذ من اليهودية أو [ أنَّ ] اليهودية ظهرت في التشيُّع ؟.
وهل يحسن بعاقل أنْ يقول: أنّ أبا حنيفة أخذ فقهه من المجوس لأنَّه وافقهم في بعض الفروع في باب النكاح أو غيره(2) ، ويعضد ذلك أنَّه فارسي
____________
<=
واذا كان الشِّيعي من المتمسكين بهذا الحبل المتين، ومن الاخذين بجنبة أهل هذا البيت الطاهر، ومن المتمثِّلين لاوامرهم التي هي بالتالي عين أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله، المتلقاة من قبل الله تعالى(وإنَّ هذا صِراطِي مُستَقيماً فَاتبعوه ولا تَتبعُوا السْبلَ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلِهِ ذلِكُمْ وَصاكُمْ بِهِ لَعَلَكُمْ تَتَّقُونَ) فلماذا نشكلَ عليه هذَا الفضل، وهذه الكرامة التي وعد بها.
(1) أنظر: صحيح البخاري 1:90 (كتاب التيمم) و 8: 82 (كتاب الدعوات)، صحيح مسلم 1: 188 (كتاب الايمان، باب قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: أنا أول الناس يشفع في الجنة، وباب اختباء النبي صلّى الله عليه وآله دعوة الشَّفاعة لأمَّته) و 4: 1782 (باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق)، سنن ابن ماجة 2: 1440 (كتاب الزهد، باب ذكر الشَّفاعة)، موطأ مالك 1: 212 (كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء)، مسند أحمد 2: 275، 313، 396، 409، 426، 430، 486، و 2: 3، 134، 208، 218، 258، 276، 292، 384، 396، و5: 148.
(2) راجع كتاب المبادئ العامة للفقه الجعفري صفحة 317 وما بعدها.
الأصل ؟ أليس يعدّ هذا من سفه القول، وخطل الآراء الّتي لا فائدة فيها سوى إيقاد نار الشَّحناء والبغضاء بين المسلمين ؟
ثمَّ يقول: «والنَّصرانية ظهرت في التشيُّع في قول بعضهم أنَّ نسبة الامام الى اللهّ كنسبة المسيح الى الله»...! !
إنَّ من حقِّ الأمانة على ابن الأمين أنْ يُعيِّن الهدف، ولا يرسل في غير سدد وبغير سداد، كان يجب عليه أن يذكر مَنْ هو القائل بهذا القول من الشِّيعة.
فهل مراده ما يسمُّونهم غلاة الشِّيعة كالخطّابية(1) والغرابية(2)
____________
(1) اتباع أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الاجدع الاسدي الذي كان يدَعي بأنً الامام الصّادق عليه السلام جعله قيمه ووصيه من بعده، وعلَمه اسم الله الاعظم، ثم ادعى بعد ذلك أنَّه نبي مُرسَل ! وأنَّه من الملائكة ! وغير ذلك من الخرافات والادعاءات الدالَة على انحرافه وكفره.
وقيل: إنَّ الاجدع وأصحابه ادعوا بأنَّ الائمة الهة ! وأنَ أولاد الحسن والحسين عليهما السلام أنبياء الله واحبائه ! وأحلوا المحارم، وتركوا الصلاة والصِّيام والحج، وغير ذلك.
ولمّا بلغ الامام الصادق عليه السلام مقالته ومقالة اصحابه لعنه ولعن اصحابه، وتبرأ منه ومنهم، بل وأباح دمه وأمواله هو وجماعة اُخرى من المشعوذين، واصحاب البدع والكفريات.
راجع: فرق الشِّيعة: 42، التبصير: 111، الملل والنحل 1: 179، الشِّيعة بين الاشاعرة والمعتزلة: 54، مروج الذهب 3: 220، مقالات الاسلاميين 1: 133.
(2) يذهب أصحِاب هذه الفرقة الضالة إلى أن الله تبارك وتعالى قد أرسل جبرئيل لعلي عليه السلام، إلاّ أنَه توهم في ذلك وقصد محمَداً صلّى الله عليه وآله بالرسالة لأنّه يشبهه كما يشبه الغراب الغراب ! !
ومنهم من يدَّعي بأنَّ الله تعالى قد فوَض أمر تدبير الخلق لرسول الله صلّى الله عليه وآله وأنًه فوَض ذلك الامر لعلي عليه السَلام ! !
بل وتُنسب اليهم الكثير من الضلالات المخرجة لهم عن دين الاسلام بغير نقاش.
أنظر: الشِّيعة بين الاشاعرة والمعتزلة: 54، تأريخ المذاهب الاسلامية: 40 /53، الحور العين: 155، البحر الزخّار: 25..
والعلياوية(1) والمخمّسة(2) ، والبزيعية(3) وأشباههم من الفرق الهالكة المنقرضة التي نسبتها الى الشِّيعة من الظلم الفاحش، وما هي إلاّ من الملاحدة كالقرامطة(4) ونظائرهم، أمّا الشِّيعة الإِمامية وأئمتهم عليهم السلام فيبرأون من
____________
(1) وقيل العليائية أو العلباوية، والظاهر أن الاخير هو الاصح، وهو الموافق لما ذكره الشهرستاني في ملله وقال: بأنَهم من أتباع العلباء بن دراع الدوسي أو الاسديَ.
ويذهب أصحاب هذه الفرقة الضالة ـ على ماذُكرـ إلى أنَّ علي بن أبي طالب عليه السلام ربي ـ استغفر الله العظيم ـ وأنَّه ظهر بالعلوية الهاشمية، وأظهر أنه عبده، وأظهر وليه من عنده ورسوله بالمحمدية، فوافقوا أصحاب أبي الخطّاب ـ لعنه الله ـ في اربعة اشخاص: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وأن مضي الاشخاص الثلاثة ـ فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ـ تلبيس، والحقيقة شخص محمد صلى الله عليه وآله، لانَه أوَّل هذه الاشخاص في الامامة، وأنكروا ايضاً شخص محمد صلّى الله عليه وآله وزعموا أنَّه عبد لعلي عليه السلام ! !... الى اخر سخافاتهم وكفرياتهم.
راجع: رجال الكشي: 399، مقباس الهداية 2: 362، الملل والنحل 1: 175.
(2) من فرق الغلاة المنحرفة، والملعونة على السنة أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم. يذهب أصحاب هذه الفرقة الضالة الى أن سلمان الفارسي، وأبا ذر الغفاري، والمقداد أبن الاسود، وعمّار بن ياسر، وعمرو بن أمية الضمري هم النبيين والموكَلين بمصالح العالم من قِبل الرب، وأن الرب في قولهم ـ قبحهم الله تعالى ـ هو علي عليه السلام.
اُنظر: مقباس الهداية 2: 361.
(3) أتباع بزيع بن موسى الحائك الذين يذهبون إلى أنَّه ـ لعنه الله ـ نبي مُرسَل كأبي الخطّاب المتقذَم الذكر، وأنَّ الامام الصّادق عليه السلام هو الذي أرسله بذلك ! ! فلما سمع خبره الامام عليه السلام لعنه هو وجماعة من الغلاة والمنحرفين بقوله: لعنهم الله، فإنّا لا نخلوِ من كذّاب يكذب علينا، أو عاجز الرأي، كفانا الله تعالى مؤنة كلِّ كذّاب، وأذاقهم الله حر الحديد.
أنظر: فرق الشِّيعة: 43، رجال الكشي 2: 593/549، مقالات الاسلاميين: 12..
(4) يذهب النوبختي في فرقه إلى أنً تسمية القرامطة بهذا الاسم تعود إلى رئيس لهم من أهل السواد كان يُلقَب بـ (قرمطويه) وكانوا في الاصل يقولون بمقالة المباركية ـ الذين يزعمون بأن الامامة بعد الامام جعفر بن محمًد الصادق عليه السلام في محمَد بن اسمِاعيل بن جعفر بعد أنْ كانت لابيه في حياة الامام الصادق عليه السلام، واُسموا بذلك لانَ رئيسهم يُدعى
=>
...................................................
____________
<=
وزعم اولئك ـ على قول النوبختي وغيره ـ أن رسالة النبي صلّى الله عليه وآله قد انقطعت يوم غدير خم، وانتقلت إلى علي عليه السلام ! ! وكذا حال اللاحقين عند وفاة السابقين لهم.
ثم أنَّ أصحاب هذه الفرقة يذهبون ـ على ما قيل عنهم ـ الى أنَ الفرائض رموز واشارات، وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود، وأباحوا جميع الملذات والمنكرات، واستحلُوا استعراض الناس بالسيف، وغير ذلك مما ينسب اليهم من الضلالات..
واما ابن الجوزي فقد ذكر في كتابه المعروف بـ (تلبيس ابليس): أن للمؤرَخين في سبب تسميتهم بهذا قولان: أحدهما: أن رجلاً من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فاظهر الزهد ودعا الى إمام من أهل بيت الرسول صلوات الله عليه وعليهم، ونزل على رجل يُقال له (كرميتة) لقِّب بهذه عينيه، وهو بالنبطية حاد العين، فاخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام، فرقَّت له جارية فاخذت المفتاح ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إلى مكانه، فلمّا طُلب ولم يوجد شاع الخبر وزاد افتتان الناس به، فتوجه من هناك إلى الشام.
وأمّا وجه تسميته بذلك: فأنَه أُسمي أول الامر بـ (كرميتة) أي اسم الرجل الذي كان نازلاً عنده، ثم خُفَف فقيل (قرمط) ثم توارث مكانه أهله وأولاده.
وقيل: أنما عُرف حمدان هذا بقرمط من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان يقال له: صاحب الخال، والمدثر، والمطوق.
وكان ابتداء أمره في سنة (264 هـ) وحيث كان ظهوره بسواد الكوفة، واشتهر مذهبه بالعراق.
وللمؤرِّخين وكتّاب الفرق اراء اُخرى في نشأتهم وتسمية روّادهم الاوائل لا يسعنا هناك التعرًّض لها، محيلين القارئ الكريم في ذلك إلى المصادر المختصة بهذا الباب.
راجع: فرق الشيعة: 72، الفصول المختارة: 251، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة: 84، الفرق بين الفرق: 22، الملل والنحل 1: 167و191، تأريخ الطبري 10: 23، الكامل في التاريخ 7: 444، تلبيس ابليس: 110.
تلك الفرق براءة التحريم(1) .
____________
(1) لقد كان موقف الائمة من أهل البيت عليهم السلام حاداً وقطعياً في رد وتكفير الغلاة، بل والبراءة منهم، ونفي وجود أي صلة لهم بهم.
فهذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: «بُني الكفر على أربعة دعائم: الفسق، والغلو، والشك، والشبهة».
وأمّا الامام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام فقد قال: «أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان أنْ يجلس إلى غال فيستمع إلى حديثه ويصدقه على قوله، إن أبي حدثني عن أبيه عن جدِّه عليهم السلام: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: صنفان من أُمتي لا نصيب لهما في الاسلام: الغلاة، والقدرية».
وقال عليه السلام مخاطباً أحد أصحابه: «أيا مرازم، قُل لهم (أي للغالية) توبوا إلى الله تعالى، فانًكم فسّاق، كفّار، مشركون».
وقال عليه السلام مشيراً إلى نفي صلة اولئك الغلاة باهل البيت عليهم السلام: «لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن الله يهودية كان يختلف اليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إنَّ المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الايمان، وإن قوماً كذبوا عليّ، ما لهم أذاقهم الله حر الحديد... أبرأ الله مما قال في الاجدع البرّاد عبد بني أسد أبو الخطّاب لعنه الله... اًشهدكم: إني امرو ولدني رسول الله صلّى الله عليه وآله، وما معي براءة من الله، وإنْ أطعته رحمني، لانْ عصيته عذبني».
وقال مخاطباً أحد إلى الغلاة (وهو بشار الشعيري): «أخرج عني لعنك الله».
وأمّا الامام الرضا عليه السلام فقد قال عنهم: «كان بيان بن سمعان يكذب على علي بن الحسين عليه السلام، فاذاقه الله تعالى حرَّ الحديد، وكان اَلمغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه السلام، فاذاقه الله تعالى حر الحديد، وكان محمَد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى عليه السلام فأذاقه الله تعالى حرَّ الحديد، وكان أبو الخطّاب يكذب على أبي عبدالله عليه السلام فم ذاقه الله تعالى حر الحديدا».
بل وترى الائمة عليهم السلام يحذِّرون شيعتهم من أحاديث كان ينتحلها اولئك الغلاة على ألسِنة الائمة عليهم السلام، في محاولة منهم ـ لعنهم الله تعالى ـ لكسب الانصار والمؤيدين لهم، فقد روي عن الامام الصادق عليه السلام قوله محذَراً الشِّيعة من الوقوع في حبائلهم: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنَّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فان المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دس في كتب اصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه
=>
على أن تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى، بل خلاصة مقالتهم ـ بل صلالتم ـ: أنَّ الامام هو اللهّ سبحانه ظهوراً أو اتحاداً أو حلولاً، أو نحو ذلك مما يقول به كثير من متصوَفة الاسلام ومشاهير مشايخ الطرق، وقد ينقل عن الحلاّج بل والكيلاني والرفاعي والبدوي وأمثالهم من الكلمات ـ وان شئت فسمِّها كما يقولون شطحات ـ ما يدل بظاهره على أنَّ لهم منزلة فوق الربوبية، وأنَّ لهم مقاماً زائداً عن الالوهية (لو كان ثمَة موضع لمزيد) وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود أو الموجود.
____________
<=
وقال عليه السلام ايضاً: «كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المتسترون باصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى اصحابه فيأمرهم أنْ يُثبتوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذلك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم».
واذا كان ذلك ديدن أئمتنا عليهم التحية والسلام، فان ذلك بلا شك منهج أتباعهم وشيعتهم، وتجد ذلك واضحاً في مؤلفات أصحابنا رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة، المتخصصة بهذا الموضوع، فهم يحكمون عليهم بلا ترديد بالضلال والكفر، ومن ذلك قول شيخنا المفيد رحمه الله تعالى عنهم: وهم ضلال كفار، حَكَمَ فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل والتحريق بالنار، وقضت عليهم الائمة عليهم السلام بالاكفار والخروج عن الاسلام.
واما النوبختي فقد قال عنهم بعد أنْ استعرض فرقهم: فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع، والى الخرميدنية، والمزدكية، والزنديقية، والدهرية مرجعهم جميعاً، لعنهم الله تعالى.
وغير ذلك مما يجده القارئ الكريم عند البحث والمراجعة فراجع: فرق الشيعة: 41، أوائل المقالات: 238، الكافي 2: 288/1 (باب دعائم الكفر وشعبه)، الخصال 1: 72/109، رجال الكشي: 224 و225 و 302 و 398، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة: 51 وما بعدها.
أمّا الشِّيعة الامامية ـ وأعني بهم جمهرة العراق وإيران وملايين من مسلمي الهند ومئات الالوف في سوريا والأفغان ـ فإنّ جميع تلك الطائفة ـ من حيث كونها شيعة ـ يبرأون من تلك المقالات، ويعدُّونها من أشنع [ أشكال ] الكفر والضلالات، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كلِّ مشابهة للمخلوق، أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقص والامكان، والتغيّر والحدوث، وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية، إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم في الكلام، من مختصرة (كالتجريد) أو مطولة (كالأسفار) وغيرهما ممّا يتجاوز الالوف، وأكثرها مطبوع منتشر، وجلّها يشتمل على إقامة البراهين الدامغة على بطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم.
ولو راجعِ المنصف ـ الذي يمشي وراء الحقائق وفوق العصبية والأغراض ـ شيئاً منها لعرف قيمة قول هذه الناشئة المترعرعة التي قذفتنا بهم أعاصير هذا العصر وتطوّرات هذا الزمن، نعم يعرف قيمة قذف الشِّيعة بالتناسخ والحلول والتجسيم.
والقصارى: إنّه إنْ أراد بالشِّيعة هم تلك الفرق البائدة، والمذاهب الملحدة ـ التي لا أحسب أنَّ في رقعة الأرض منهم اليوم نافخ ضرمة ـ فنحن لا نضايقه في ذلك، ولكن نسبتهم إلى الشِّيعة ظلم فاحش، وخطأ واضح، وقد أساء التعبير، وما أحسنَ البيانَ، ولم يعط الحقيقة حقَّها.
وانْ أراد بالشِّيعة الطائفة المعروفة اليوم بهذا الاسم [ و ] التي تعدُّ بالملايين من المسلمين، فنحن نطالبه بإثبات ذلك من مصنَّفات أحد علمائهم من حاضر أو غابر.
وعلى أي حال، فقد استبان ـ ممَّا ذكرناه ـ أنَّ جميع ما ذكره [ صاحب ] (فجر الاسلام) عن الشِّيعة ـ في هذا المقام وغيره ـ تهويل بلا تحصيل،
ودعاو بغير دليل.
ونحن لا نريد في مقامنا هذا أنْ نتعقَب كتاب (فجر الاسلام) بالنقد، وندلّ على جميع خطيئاته، ومبهرج آرائه واجتهاداته، وإنَّما ذكرنا هذه النبذة استطراداً في القول، وشاهداً على صورة حال الشِّيعة عند كتَبَةِ العصر، ومَنْ ينظمونه في سلك العلماء وأهل الأقلام، فما ظنّك اذن بالسّواد والعوام ؟!
ومنبع البلية أنَّ القوم الَّذين يكتبون عن الشِّيعة يأخذون في الغالب مذهب الشِّيعة وآحوالهم عن ابن خلدون البربري، الَّذي يكتب وهو في افريقيا وأقصى المغرب عن الشَيعة في العراق وأقصى المشرق، أو عن أحمد ابن عبد ربه الأندلسي وأمثالهم.
فإذا أراد كتَبَة العصر أنْ يتضلَّعوا ويتوسَعوا في معرفة الشِّيعة رجعوا إلى كتب الغربيين وكتبة الأجانب كالأستاذ (ولهوسن) أو الاستاذ (دوزي) وأمثالهم، وهناك الحجة القاطعة، والقول الفصل ! ! أمّا الرجوع إلى كتب الشيعة وعلمائهم فذاك ممّا لا يخطر على بال أحدهم.
ولكنَّ الشِّيعي ـ الَّذي هو على بيِّنة من أمره وحقيقة مذهبه ـ إذا نظر إلى ما يكتبه حملة الأقلام ـ في هذه الأيام ـ عن الشِّيعة وعقائدها وجدها من نمط النادرة التي يحدِّثنا بها الراغب الاصفهاني في كتابه المعروف بـ (المحاضرات) قال ـ على ما يخطر ببالي ـ: سُئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان فقال: إنَّه خارجي، معتزلي، ناصبي، حروري، جبري، رافضي، يشتم علي بن الخطّاب، وعمر بن أبي قحافة، وعثمان بن أبي طالب، وأبا بكر بن عفّان، ويشتم الحجّاج الَّذي هدم الكوفة على أبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية يوم القطايف. أي يوم الطف أو يوم الطائف ! !
فقال له جعفر بن سليمان: قاتلك الله، ما أدري على أي شيء
أحسدك، أعلى علمك بالأنساب أم بالأديان أم بالمقالات ؟(1) .
أمّا (عبدالله بن سبأ)(2) الَّذي يلصقونه بالشِّيعة أو يلصقون الشِّيعة به،
____________
(1) محاضرات الاُدباء 4: 418.
(2) يبدو بوضوح للمتأمِّل في قصة عبدالله بن سبأ، ودوره في الاحداث التي جرت ابان حكم الخليفة الثالث أو ما بعده ـ على قول البعض الآخر ـ أنه أمام وقائع وأحداث نُسجت بكثير من المبالغة والتهويل لشخصية عادية مغمورة، لا دور واقعي لها يذكر في صياغة أي حدث أو أمر، وإنْ ذهب البعض حتى الى التشكيك في صحة وجودها وأنَها خرافة حبكت بقدر كبير من الخبث والحقد للطعن بالشَيعة ومعتقداتها.
نعم، إن استقراء السيرة الذاتية لهذه الشخصية في كتب العامة ـ لا كتبنا لانها عندنا واضحة جلية أجلى من الشمس في رابعة النهار ـ يكشف للمرء الكثير من هذه الاخبار المليئة بالمبالغة والكذب والتناقض بشكل لا يخفى على أدنى متأمَل، رغم وضوح حال هذا الرجل، ومحدودية أمره في كتب الشيعة ورواياتهم التي لا تذهب إلا إلى أنه غال ملعون غالى بعلي عليه السلام فحكم فيه حكم الاسلام الخاص بامثاله من الغلاة، لا أكثر ولا أقل، فه وضمن هذا المقياس شخصية عادية كحالها من الشخصيات المنحرفة التي تعج بها جميع الكتب لا كتبنا فقط.
والحق يقال: إنّ هذه المبالغة المفرطة في حياكة دور مهول لهذا الرجل في صياغة الكثير من الاحداث الجسام دفع بالعديد من المؤرخين والباحثين الى التشكيك صراحة في وجود مثل هذا الشخص في أرض الواقع، وتلك حالة رد فعل طبيعية لها بعض التبرير أمام أمور خرافية وغير عقلائية تزدريها الالباب، فحدث نتيجة ذلك ما نراه في تلك الكتب من الارتباك والتنافر وعدم الوضوح، حين نرى أن البعض الآخر يذهب إلى أن ابن سبأ ليس إلا عمّار بن ياسر رحمه الله تعالى والذي حاولت قريش الطعن فيه فاخترعت له هذه التسمية كما كانت تسميه بابن السوداء، وذلك لما يروونه عنه من تزعمه لقادة الثورة التي أودت بحياة الخليفة عثمان بن عفان، وتفانيه في خدمة علي بن ابي طالب عليه السلام، وتشيعه الصريح له.
ثم لا يخفى عليك أخي القارئ الكريم أنَّ أول الحائكين لهذه الاسطورة الخرافية حول هذا الرجل ـ والذي قفى بعد ذلك أثره المؤرخون ـ هو الطبري في تاريخه، وكان مصدره فيها سيف بن عمر البرجمي (ت 170هـ) الذي يطعن به معظم أصحاب التراجم والسير بشكل صريح وواضح، حتى لقد قال عنه مرة: فليس خير منه، وقال عنه أبو حاتم: متروك الحديث، وقال عنه أبو داود: ليس بشيء، وأمّا النسائي والدارقطني وابن معين فقد قالوا عنه: ضعيف الحديث... فراجع وتأمل.
=>
...................................................
____________
<=
وللحق أقول: إن مجرد التأمل البسيط في الظروف المحيطة بظهور هذه الرواية، وما
يمكن أنْ تترتب عليها من نتائج اذا ذهب البعض إلى التسليم بصحتها، رغم تناقضاتها
الصريحة والواضحة، بل وما تحاول ابرازه إلى سطح الواقع من شواهد محددة ومعروفة لدىَ
الجميع، يشير بدون لبس إلى غرض المؤامرة التي تبدو فيها أصابع الامويين وبصماتهم
واضحة جلية، وذلك من خلال استقراء الاحداث المروية في المراجع والتي قيل أن هذا
الرجل قام بتدبيرها بين البصرة، والكوفة، والشام، ومصر، وخلال فترة زمنية محدودة، وما
ترتب عليها بعد ذلك من نتائج واسعة وخطيره لا يمكن لاحد التسليم بصحتها، والجزم
بوقوعها إلاّ اذا جافى الحقيقة والمنطق، وأعرض عن حكم العقل وحجته، بل ولا بُد ـ وكما
ذكرت سابقا ـ من أنْ تتأكَد لديه هذه الحقيقة وهذا الدور المفضوح لتلك الشجرة الملعونة
في القرآن في صياغة واشاعة هذه الاسطورة المضحكة والمهلهلة، وهو ما اثار الكثير من
الباحثين والدارسين حتى دفعهم صراحة إلى القول بأن أعداء الشًيعة ادخروا هذه الاسطورة
وتفننوا في حياكتها للطعن بهم، فجاء الخلمف من بعد فتلقَف ما قال الاوَّلون وسلَموا بصحته
دون أدنى دراسة وتأمل فوقعوا في الشراك وشاركوا من سبقهم في ظلم الشِّيعة والافتراء
عليهم، وذلك مما تتفطر له القلوب أسى وتأسفاً...
ولعل الملفت للنظر أن الاسطورة المنسوجة حول دور عبدالله بن سبأ في صناعة
الاحداث التي عصفت بالدولة الاسلامية خلال حكم الخليفة عثمان بن عفان، ودوره في
خداع الشعوب ـ كما تجده مسطوراً في الكتب اللاحقة بكتاب الطبري ـ وحشدها لتنفيذ
خطته للاطاحة بالخليفة، وغفلتها (اي تلك الشعوب) المثيرة للتعجب والاستغراب، تجدها
متصاغرة متواضعة، وذليلة عاجزة أمام طاعة أهل الشام ـ شام معاوية آنذاك ـ للدولة
الاسلامية وحكامها، وأنهم هم الذين لم يُغيروا ولم يُبدلوا، بل إنَ ابن سبأ لم يجد له فيها أذناً
صاغية لدعوته، حين وجد في أهل مصر ضالته، هذا اذا علمنا بأنَّ لمصر الدور الاكبر في
الثورة على عثمان بن عفان حينها... اذن فلا متمسك بدين الاسلام في هذه الاسطورة إلاّ
الشام، ويا حسرة على ما سواها من الشعوب المنحرفة اللاهثة وراء الفتنة وأصحابها ! ! فتأمَل.
والخلاصة: إن قصة ابن سبأ ـ إنْ سلَمنا بوجود شخص بهذا الاسم، لانّ هناك أقوال
وتصريحات قائمة على دراسات علمية رصينة تذهب الى نفي وجود هذهِ الشخصية، كما
ذهب الى ذلك العلامة السيَّد مرتضى العسكري في كتابه المعروف عبدالله بن سبأ وأساطير
اُخرى ـ اسطورة نُسجت حول شخصية تافهة منحرفة، وبولغ فيها أشد المبالغة حتى أمست
أقرب منها إلى حكايات العجائز في ليال الشتاء الباردة، بل ومثيرة للاستخفاف والاستهجان،
=>
فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه، وأخف كلمة تقولها كتب رجال الشِّيعة في حقِّه ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا: (عبدالله بن سبأ، العن مِنْ أنْ يُذكر).
انظر رجال أبي علي وغيره(1) .
على أنَّه ليس من البعيد رأي القائل: أنَّ عبدالله بن سبأ، ومجنون بني عامر، وأبي هلال، وأمثال هؤلاء الرجال أو الأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السَّمر والمجون، فانَّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين الأموية والعبّاسية، وكلّما اتسع العيش وتوفَّرت دواعي اللهو، اتسّع المجال للوضع، وراج سوق الخيال، وجعل القصص والأمثال، كي تأنس بها ربّات الحجال، وأبناء الترف والنعمة المنغمرين في
____________
<=
ولعل الامر الواضح والجلي في سر صناعة هذه الاسطورة يكمن في أمر موالاة الشيعة لعلي عليه السلام وأهل بيته الاطهار، امتثالاً لامر الله تعالى ورسوله، وهذا ما أثار حفيظة الامويين وحقدهم الاسود عليهم والذي لا يقف عند أي حد، فاختلقوا ما زينته لهم نفوسهم المريضة، ووجدها أعداء الشيعة لقمة سائغة فازدورها وطفقوا بجهل يتبجحون بها كالحمقى والمغفلين، من دون أدنى مراجعة ودراسة، وأنا أترك للقارئ الكريم مسألة الحكم حول هذا الموضوع بعد دراسته المجردة للوقائع التاريخية الممتدة خلال فترة ظهور هذا الرجل، أو ما كتب عنه من قبل الباحثين والدارسين المختلفين، وحتى يدرك بالتالي تفاهة وسقامة الربط الساذج بين عقيدة تمتد جذورها إلى اليوم الاول لقيام الدعوة الاسلامية، وبين رجل أبسط ما قيل في حقَه أنَه مشرك وكافر، فراجع. (1) بلى إن جميع مصادر الشيعة اتفقت على لعنه وتكفيره، وأنه غال زعم أن أمير المؤمنين عليه السلام إله أو نبي مرسل من قبل الله على الاقل.
فراجع: رجال أبو علي: 302، رجال الكشي 9: 323، رجال الطوسي: 51/76، نقد الرجال: 199/131، الخلاصة (القسم الثاني): 237/19، تنقيح المقال 2: 183 وغيرها.
بُلَهْنية(1) العيش.
وأنَّ سمادير(2) الأهازيج الَتي أصبح يتغنّى بها لنا عن القرآن والاسلام (الدكتور طه حسين) وزملاؤه، والدور الَّذي جاءوا يلعبون فيه للمسلمين بالحراب والدرق، فهو أشبه أنْ يكون من أدوار تلك العصور الخالية، لا من أدوار هذه العصور التي تتطلب تمحيص الحقائق بحصافة وأمانة، ورصانة ومتانة.
ومهما كان الأمر أو يكن، فكلّ ذلك ليس من صميم غرضنا في شيء، وما كان ذكره إلاّ من باب التوطئة والتمهيد للقصد، وإنَّما جلّ الغرض أنَّه بعد توفّر تلك الأسباب والدواعي، والشؤون والشجون، والوقوف على تلك الطعنات الطائشة على الشِّيعة المتتابعة من كتَبَةِ العصر في مصر وغيرها، رأشا من الفرض علينا ـ الَّذي لا ندحة عنه ـ أنْ نكتب موجزاً من القول عن معتقدات الشِّيعة واُصول مذهبها، وأمهات مسائل فروعها التي عليها إجماع علمائها، والَّذي يصح أنْ يقال أنَّه مذهب الشِّيعة على إطلاقها، أمّا ما عداه فهو رأي الفرد أو الأفراد منها، ومثله لا يصح أنْ يُعد مذهباً لها، ومعلوم أنَّ باب الاجتهاد لم يزل مفتوحاً عند الشَيعة، ولكلّ رأيه ما لم يخالف الإجماع أو نص الكتاب والسنَّة أو ضرورة العقول، فإن خالف شيئاً من ذلك كان زائغاً
____________
(1) البُلَهْنية: السعة والرفاهية في العيش.
انظر: القاموس المحيط 4: 203.
(2) السمادير: ضعف البصر، وقيل: هو الشيء الذي يتراءى للانسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغَشْي النعاس والدوّار.
قال الكميت:
وَلَما رايتُ المقرباتِ مُذالةً | وَأنكرتُ إلاّ بِالسًماديرِ ألها |