الحدس والحس والفطرة والبديهة هي الثروة المفقودة والموجودة. اقرأ هذا الكتاب بقلبك، لا بفكرك. لا تعد الساعات أو الوقت في أثناء القراءة. هذا الكتاب مرآتك الضائعة. اقرأ، وستولد من جديد. بحدس ومنطق حق، لا ثمن له إلا إذا عادت إليك جميعُ حواسك. وستكون لغتك لغة الصمت – صمت الأحياء.
بهذه الكلمات قدمت مريم نور لكتاب الحدس، أبعد من أي حس[1][1] – وهو جزء من سلسلة كتب تتناول موضوعات عديدة لأحد الحكماء، أوشو[2][2]، الذي يناقش هذه الموضوعات في منتهى الوضوح، هَزْلاً في بعض الأحيان، وعلى نحو شائق أحيانًا أخرى، باعتماد القصص التي تقرِّب أفكارَه منَّا، بعيدًا عن الأسلوب الفلسفي العويص الذي قد يكون جامدًا أحيانًا
يبدأ الكتاب الذي قُسِّمَ إلى ثلاثة فصول بالحديث عن عدم إمكان تفسير الحدس بالطريقة العلمية، – فالظاهرة، في حدِّ ذاتها، غير علمية وغير عقلانية، – مؤكدًا أنه أمر يتعدى الفكر ويخترقه. الحدس، بحسب أوشو، ينتقل من دون أية وسيلة؛ لذا فهو قفزة من نقطة إلى أخرى، من دون صلة رَبْط بينهما، ويحصل لنا من غير أيِّ سبب أو مصدر. كذلك لا يمكن التقاطه؛ فهو قفزة من العدم إلى الوجود. ولهذا السبب ينكره العقل لعدم قدرته على التقاطه.
ويرى أوشو أن العالم ينقسم إلى ثلاثة عوالم: المعلوم والمجهول وغير المدرَك؛ والأخير هو الجمال والمعنى والهدف، وفيه معنى للحياة. لذا يفرِّق بين الفكر – وهو جهد لمعرفة المجهول – وبين الحدس – وهو حدوث غير المدرَك. ويمكن اختراق غير المدرَك، لكنْ من غير الممكن تفسيرُه.
يتناول الفصل الأول “خرائط” التفريق بين الغريزة الخاصة بالجسد وبين الحدس الخاص بالروح – وبينهما المعرفة المتعلقة بالعقل؛ فيتحدث عن الرأس والقلب والكائن، وهي تكوينات الشخصية وكل متكامل. فـالفكر وظيفة الرأس، والغريزة وظيفة الجسد؛ أما الحدس فهو وظيفة القلب. وخلف هذه المراكز الثلاثة ثمة الكائن الذي يعمل فقط كـشاهد. والشخص الحكيم يخلق انسجامًا بين الرأس والقلب والجسد؛ ومن هذا الانسجام يأتي الوحي بمصدر الحياة، الروح – من دون الاستغناء عن الفكر لحاجتنا إليه كخادم فقط، لا كسيد. وينسب أوشو الماضي إلى الغريزة التي نتقاسمها مع الحيوان؛ أما الفكر – وهو ميزة بشرية – فهو حاضرنا. والأولى (أي الغريزة) لا تخطئ أبدًا، لأنها قديمة؛ أما الثاني فيخطئ، لأنه حديث في سلَّم التطور.
ومقابل الغريزة في القطب الآخر من وجودنا – في ما يتعدى العقل، وهو عالم الفكر – هناك عالم الحدس. الفكر هو العقل، والغريزة هي الجسد، والفكر هو جسر بين الغريزة والحدس نعبر من خلاله. الحدس يَهَبُ الحياة معنى، ويُضفي عليها روعة وبهجة: فهو يكشف لنا أسرار الوجود، ويمنحنا نعمة الصمت والسكون. وعلينا أن نفهم معنى الحدس، لأنه ينبعث من الداخل. إنه استبصار بالأمور في صورة فجائية، دونما حاجة إلى خبرة سابقة. لذا يرتِّب أوشو تلك المستويات على سلَّم الوعي في درجات مختلفة، يتصدرها الحدس؛ بينما تحل الغريزة في المرتبة الأدنى، ويتوسط بينهما الفكر. والغريزة إسقاط لمشاعرنا الشخصية، وهي جزء من طبيعتنا البيولوجية. أما الفكر فيمنحنا شيئًا أسمى من البيولوجيا والكيمياء ومن الطبيعة الحيوانية؛ وهو جزء من عقلنا الواعي، على عكس الغريزة التي تنتمي إلى عقلنا اللاواعي. وحين يلتقي العقلان ويتحدان، فإن طاقتنا بأكملها تكون متوفرة للمستوى الأعلى من الوعي حيث الحدس. ومع الوعي الأعلى، يصبح كلٌّ منَّا إنسانًا. ومن هنا يلخِّص أحد الصوفيين فلسفة أوشو بالقول: “فوق كلِّ شيء هناك حقيقة الإنسان، وفوق ذلك لا وجود لأيِّ شيء.”
يتطرق أوشو إلى عوائق المعرفة، التي تختلف عن العرفان لكونها نظرية؛ أما العرفان فتجربة ذاتية. كذلك ينبغي التمييز بين المخيلة والحدس، اللذين يقعان على طرفَي نقيض: الحدس مرآة فقط، لا يخلق الأشياء، إنما يعكسها؛ أما عندما نخلق واقعنا الخاص، ندعو ذلك المخيلة، كما في الأحلام مثلاً. وفي الداخل يجب أن نكتشف الواقع، لا أن نخلقه، ويجب أن نسمو فوق الحدس والمخيلة والفكر. فالوجود يعطينا في سخاء الكينونة والسلام والحب، بحيث لا يمكن لنا أن نطلب أكثر، وبالتالي أن نحلم بأكثر من ذلك.
في فصل آخر من الكتاب، يتناول أوشو مفهوم السياسة، التي تنتمي أساسًا إلى المستوى الغريزي، حيث يسود قانون الغاب: القوة تصنع الحق. والسياسة تعني محاولة إثبات التفوق على الآخرين. أما على المستوى الثاني، فالحق يصنع القوة والفطنة، ويؤمن بإظهار الحق. وعلى المستوى الحدسي لا وجود للسياسة. لكنْ عندما تُسلَّم السلطة إلى أصحاب الكفاءة، يكون لدينا نظام ديموقراطي حقيقي في العالم. فما يُدعى بـ”الحكم الديموقراطي” اليوم ليس إلا حكم العصابات!
تخلَّ عن العقل الذي يفكر بالطريقة النثرية، وقُمْ بإحياء نوع آخر من العقل يفكر بالطريقة الشعرية. انتقلْ من الفكر إلى الحدس، من الرأس إلى القلب، لأن القلب هو الأقرب إلى الأسرار.
هكذا مهَّد أوشو للفصل الثالث، “الاستراتيجيات”، حيث شخصية الكائن البشري المعقدة بطبقات – هي مثل المَصافي – من التطبع والفساد. تلك الطبقات تشمل الحواس المادية المعطَّلة التي دُرِّبَتْ لتحسَّ بما تحس به، إلى التطبع الاجتماعي، السياسي والإيديولوجي، للعقائد الفكرية التي تدمِّر التواصل – والحياة ليست سوى تواصل. فالحوار يتوقف عندما يكون مثقلاً بالعقائد التي تخلق نوعًا من الضبابية، وتجعل الإنسان متخوفًا من استكشاف آفاق جديدة.
والتبرير هو المصفاة الثالثة، ويشمل التحليل المنطقي الزائف الذي يخلق المَصافي؛ بينما التفكير المنطقي الحقيقي جسر دائم. فالتحليل الزائف هو عائق مستديم. أما العاطفية – وهي الطبقة الرابعة – فهي مشاعر زائفة، لأن المشاعر الحقيقية تعني التورط والالتزام: إنها أفعال. ويحل الكبت في المرتبة الخامسة، وهو عبارة عن غرائز مسمَّمة ومعطَّلة، قد تتسبب بأضرار في جميع المراكز النفسية إذا لم تبقَ هذه منفصلة، ولا تعمل مستقلة في مجالها؛ فتشابُكها قد يتسبَّب في الكثير من المشكلات والارتباك.[3][3]
سادسًا يأتي الحدس المعطَّل. وبما أنه مغلَّف بالطبقات الخمس الأولى، أضحى من الصعب تحسُّس وجوده. فالحدس ظاهرة مختلفة تمامًا عن التفكير المنطقي الذي يستخدم عملية منهجية ليصل إلى خلاصة؛ فهو يقفز إلى الخلاصة من غير أية عملية منهجية. لذا عندما تختفي الطبقات الخمس الأولى، ونتخلَّى عن أفكارنا المتصلبة باستعمال التفكير المنطقي، إذ ذاك يبدأ الحدس في التفتح. والحدس ينبغي أن يكون على أتم انسجام مع الذات؛ ومن خلال هذا الانسجام تبرز الحلول في كلِّ مكان. كما ينبغي الانتقال من التفكير إلى الشعور: فالفكر نسبي، مستعار وعقلاني؛ أما الفطنة الخاصة بالحدس فهي شمولية وخاصة وتتعدى المنطق. الفطنة هي قدرتنا الفطرية على أن نبصر وأن ندرك وأن نتواصل مع الواقع دونما تحضير مسبق. وجمال مواجهة الحياة من دون تحضير لا يوصف: ففيه القدرة على أن نخلق أنفسنا مجددًا، نفنى عن الماضي، ونعيش الحاضر. وبالتالي، يجب أن ننتقل من التفكير إلى الشعور، الأقرب إلى الحدس.
“استرحْ، وابحث في داخلك عن الدليل” – الدليل الذي نملكه جميعًا، إنما لا نستخدمه. فمعظم الاكتشافات هي نتيجة الحدس، وليس الفكر. ليس طبيعيًّا أن نكون حدسيين: فالانتقال من التفكير إلى الشعور كافٍ. كذلك ينبغي جعلُ السعادة معيارًا، وليس النجاح: فقد نفشل، ونظل مع ذلك سعداء، لأننا نعيش من خلال الحدس. وإذا كان اهتمامنا ينحصر في الأمور الدنيوية، فالدليل الداخلي لا يلائمنا؛ أما لو اهتممنا بأبعاد الكائن الباطنية، فالدليل الداخلي وحده يمكن له تقديم المساعدة.
أما الخاتمة فتحمل عنوان “لا تحدِّد الهدف” – وهو أمر محدَّد في وضوح، خلافًا للوجهة التي هي حدسية وشعور داخلي وخاص. لذا وَجَبَ تحديد توجيهها توجيهًا يقظًا ينبض بالحياة. ويختم أوشو بعبارة لأحد معلِّمي الزِنْ وهو على فراش الموت، إذ قال: “هذه هي!” لذا يجب أن نقول “هذه هي!” حيال كلِّ لحظة – وقد تكون لحظة حياة أو موت، نجاح أو فشل، سعادة أو شقاء.
كل لحظة “هذه هي”!
منقول من معابر
يراعى حيادية الفكر عند القراءة من منظور ثقافتنا الأسلامية
أرسلت في الأحد 08 مايو 2011