التنجيم بين الناس والحكام والعلم!

عندما اجتمع رونالد ريغان وميخائيل غورباتشيف في مؤتمر القمة ، في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر يوم 8 ديسبمبر عام 1987م ، لتوقيع المعاهدة التاريخية لتدمير الصواريخ النووية متوسطة المدى ، كان مع كل منهما كبار مستشاريه العسكريين .

غير أن وراء كل منهما كان يقف أيضًا المستشارون السريون ، المخابرات السرية الروسية ، وعالم التنجيم الكاليفورنية ، ذلك أن مواعيد ريغان التي كانت تشرف على تنظيمها زوجته نانسي ، كانت محكومة خلال الثمان سنوات التي قضاها ريغان في البيت الأبيض ، بتنبؤات المنجمين .

 

أمريكا والتنجيم:
لقد أثارت هذه المسألة ضجة كبيرة في أمريكا ، بل واحتجاجات واسعة ، عندما كشف عنها مدير شئون موظفي البيت الأبيض ، دونالد ريغان في مايو عام 1988م ، يومها شعر المسئولون في البيت الأبيض بالإحراج فسارعوا إلى نفي إيمان زوجة الرئيس بالتنجيم ، وإلى نفي أي تأثير لآراء المنجمين في قرارات رئيس أكبر قوة عالية ، غير أن الرئيس وزوجته كانا قد اعترفا قبل وصولهما إلى البيت الأبيض بإيمانهما ، بعلم التنجيم الذي كان له تأثير في تسيير حياتهما اليومية .

لم يكن ريغان وزوجته الوحيدين اللذين يؤمنان بتأثير النجوم والأبراج في حياة الأفراد ، بل وفي حياة الشعوب والدول كذلك ، إذ يوجد في أمريكا وحدها 5 آلاف منجم محترف ، يبلغ دخلهم السنوي جميعاً 35 مليون دولار ، كما أن 9 من كل 10 صحف تصدر في الولايات المتحدة وأوروبا ومعظم دول العالم فيها عمود يومي للأبراج وقراءة الحظ ، يحرص ملايين القراء على قراءته يوميًا.

 

الناس والتنجيم:
كثيرين يستشيرون المنجمين قبل الإقدام على عمل مهم أو خطير في حياتهم ، من هؤلاء رجال أعمال وصناعة ، وملوك ورؤساء دول ، ومهندسين ، ورياضيين ، وعلاوة على آلاف بل وملايين النساء والرجال المقدمين على الزواج ، أي واحد منا لا يعرف برجه ، أو لم يقرأ الفلكي في جريدته اليومية ؟ وهل صحيح لحركة الكواكب في السماء تأثير في حياة البشر على سطح الأرض ؟

ينبغي أن نميز أولًا بين علم الفلك وعلم التنجيم ، ذلك أن علم الفلك موضوعي له أدواته التي تدرس الأجرام السماوية وحركتها دراسة علمية ، بينما نجد أن علم التنجيم هو مجرد اعتقاد بتأثير حركة الكواكب في حياتنا اليوميه .

علم الفلك وعلم التنجيم :
وعلم الفلك مثل علم التنجيم قديم قدم الحياة على سطح الأرض ، ويرجع تاريخ التنجيم إلى أيام البابليين القدماء 600 سنة قبل الميلاد ، الذين أخذوا يرسمون الخرائط التفصيلية لحركة الكواكب ويربطون ذلك بأوقات الفيضان وبحدوث كوارث طبيعية على سطح الأرض .

أما أول كتاب في علم التنجيم فوصلنا من المنجم اليوناني بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد ، حيث صنف النجوم في مجموعات سماها منازل ، وربط مواليد كل مجموعة بحظوظ أرضية مثل الغنى والفقر ، والصحة والمرض وحدوث كوارث معينة .

بطليموس والتنجيم :
كان بطليموس أعظم فلكي في عصره ، وكان أيضاً جغرافياً نابغة ، اعتمد العالم طوال 140 سنة على دراساته في علم الفلك وعلم التنجيم ، وفي عام 1066م اكتسبت أقوال بطليموس احتراماً وثقة فائقين وأصبحت تنبؤاته مقبولة دون شك أو تساؤل ، وذلك عندما تنبأ المنجمون .

بالاعتماد على كتاب بطليموس ونظرياته ، بموت ملك سوف يتغير بموته تاريخ العالم ، وبالفعل مات قبل أشهر قليلة في ذلك العام ملك انجلترا السكسونية ، هارولد ، الذي قتل في معركة هاستنغر ، فانتقل بموته حكم بريطانية إلى أيدي الفاتحين الاسكندينافيين (النورمنديين).

نيكولاس والتنجيم:
بيد أن نظرية بطليموس كانت في الحقيقة مبنية على غلطة هائلة ، ذلك أنه كان يري الشمس والكواكب تدور حول الأرض ، مركز الكون ،ولكن جاء عالم الفلك البولاندي نيكولاس كوبرنيكس ، وقال قبل وفاته في عام 1543م ، بأن جميع الكواكب ، بما فيها الأرض ، تدور حول الشمس ، وكان من المنتظر أن تقضي اكتشافات كوبرنيكس على علم التنجيم نهائياً ، غير أن شيئاً من هذا لم يحدث .

هالي والتنجيم :
وبعد موت كوبرنيكس بنحو 140 سنة جاء عالم الفلك الانجليزي ، إدموندهالي وقال بأن هناك مذنباً ، سمي باسمه ، مذنب هالي ، يدور حول الشمس ويظهر لنا كل 75 سنة مرة ،وهو الذي ظهر في السنة التي قتل فيها الملك هارولد عام 1066م ، وقال هالي بأن ظهور مذنبه يقترن بحدوث كوارث ، وكان من المنتظر أن تضع عدم صحة أقواله هذه آخر مسمار في نعش علم التنجيم.

نيوتن والتنجيم :
غير أن معاصر هالي وصديقته ، إسحق نيوتن ، طلع على الناس بأبحاث عادت وعززت علم التنجيم ، كان نيوتن أول من كشف عن قوانين الجاذبية ، وقال إن قوى الجاذبية على الأرض من الشمس والقمر تتسبب في حركة المد والجزر ، ولذلك قال المنجمون : إذا كان للشمس والقمر تأثير ملحوظ على الأرض وحركة الماء في المحيطات والبحار ، فلماذا لا يكون للأجرام السماوية تأثير على شخصيات وحظوظ الناس على سطح الأرض ؟

الملوك والتنجيم :
ومع كل الدلائل العلمية التي لا تؤيد علم التنجيم اليوم ، فإن هذا العلم مازال يستحوذ على اهتمام الناس في كل مكان ، ومن كل الطبقات ، فونستون تشرشل كان يستخدم  منجماً لينصحه بتأثير النجوم على تحركات هتلر الذي كان يؤمن إيماناً قوياً بالتنجيم .

وفي القرون الوسطى كان الملوك والبارونات يلجأن إلى المنجمين يستشيرونهم قبل الإقدام على عمل خطير ، كما استخدمت الملكة إليزابيث الأولى المنجم جون دي كمستشار شخصي لها ، وفي القرن 17 تنبأ المنجم وليام ليلي بحريق لندن وبالطاعون العظيم ، ومن ثم أصبح مستشاراً مقرباً من كل من شارل الأول وأويفلير كرومويل .

العصر الحديث والتنجيم:
أما في العصور الحديثة ، فقليلون هم الذين يعترفون من القادة باستشارتهم للمنجمين ، غير أن الرئيس ثيودور روزفلت كان يجاهر بذلك و لا يخفيه ،كما أن منجم هوليود المليونير كارول رايتر عام 1988م .

كان له تأثير كبير على كثير من السياسيين ورجال الأعمال ونجوم السينيما كروبرت ميتشوم ، على سبيل المثال ، كما أن الجيل الجديد من المنجمين أخذ يستعين بأجهزة كمبيوتر باهظة الثمن ، ليجري من خلالها حساباته في وقت قصير جداً لا يتعدى الثواني .

أرباب العمل والتنجيم :
وهناك الكثيرون اليوم من أرباب العمل يعتمدون في أعمالهم على علم التنجيم ، فانتيا هيغستون المسئولة عن وكالة للتوظيف في لندن ، على سبيل المثال ، تقول : أتعرف على أبراج الناس لأكتشف بعض الصفات .

وأجد الكثيرين من مندوبي المبيعات الناجحين إما مواليد برج الحمل وبرج القوس لأنهم يحسنون التعامل مع الناس ويتميزون بشخصيات قيادية ووجه محبب ، أما مديرة شركة التأمين تريفور ثويت فيقول إنه يمنح الوظائف المهمة لمواليد برجي الجوزاء والأسد لما يتمتعون به من ذلاقة اللسان وحلو الحديث وقوة الاقناع ، كما يستعين بمواليد برج القوس لأنهم مخلصين في عملهم .

وفي دراسة حول العاملين في سوق الأوراق المالية في وول ستريت ، أجريت بناء على طلب أحد أعضاء مجلس الشيوخ ، تبين أن نصف المدراء الماليين يستشيرون منجمين قبل الإقدام على عقد الصفقات أو اتخاذ قرارات مهمة .

السياسيين والتنجيم :
غير أن لجوء السياسيين والدبلوماسيين إلى استشارة المنجمين أثار ضجة كبيرة ، واحتجاجات عنيفة في العالم ، ففي الخمسينيات والستينيات من هذا القرن لجأت وكالة الاستخبارات المركزية CIA الأميركية إلى عمل كشف برؤساء الدول والسياسيين الذين يستشيرون منجمين .

ثم زرعوا عن طريق الرشوة والابتزاز ، عملاءهم بحجة أنهم من المنجمين في الدوائر السياسية المحيطة برؤساء تلك الحكومات أمثال محمد شيهو رئيس وزراء ألبانيا ، والرئيس الاندونيسي سوكارنو ، ورئيس غانا كوامي نكروما .

وقد اعترف ضابط ال CIA أن عملاءهم كانوا يخترعون تنبؤات معينة للتأثير في توجيه سياسات رؤساء أمثال تلك الحكومات ، ولقد منع أولئك العملاء حرباً أهلية دموية في غانا عندما نصح أحد المنجمين الرئيس نكروما ، بزيارة الصين حيث تم انقلاب أبيض في غيابه .

ريغان والتنجيم :
ومع ذلك كام مسئولو ال CIA عاجزين عن منع رئيسهم من استشارة النجوم ، فرونالد ريغان كان واحداً من أكثر رؤساء الولايات المتحدة إيماناً بالخرافات ، حيث كان لا يذهب إلى الاجتماعات المهمة ، مثل مباحثات نزع السلاح ، إلا وفي جيبه 5 تعويذات حظ أو أكثر ، وقد اعترف في سيرته الذاتية التي كتبها في عام 1965م ، قبل أن يصبح حاكماً لولاية كاليفورنيا بأنه كان يعتمد هو وزوجته على تنبؤات المنجمين .

وعندما كتب عن منجم هوليود المشهور كارول رايتر قال : كنا أنا و نانسي نسأله ماذا سيقول لنا كل صباح ، كما أنه تعرض لانتقادات شديدة ، عندما رفض أن تتم مراسم توليه منصب الحاكم ، إلا في الساعة 12 و 10 دقائق تماماً بعد منتصف ليلة 2 يناير عام 1967م ، بناء على نصيحة أحد المنجمين.

ولما فشل كارول رايتر في التنبؤ بمحاولة اغتيال ريغان عام 1981م ، تحولت السيدة ريغان إلى استشارة منجمة في سان فرانسيسكو السيدة جوان كويغلي التي راحت تتحكم بمواعيد الرئيس ريغان طوال ما تبقى من فترة رئاسته ، وقد شكى دونالد ريغان من أن مواعيد الرئيس كثيراً ما كانت تتغير بناء على استشارات السيدة كويغلي عبر الهاتف ، وهي على بعد 3000 ميل من البيت الأبيض.

الاستخبارات الروسية والمنجمين :
وعندما علم رجال ال CIA بأن المخابرات الروسية تراقب مكالمات السيدة ريغان مع السيدة كويغلي ، خشي أن تستغل نقاط ضعف الرئيس ومزاجه أثناء محادثاته مع الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشيف حول نزع السلاح .

ولذلك توجهوا إلى شقة السيدة كويغلي يوم 5 مايو عام 1988م ، غير أنهم لم يجدوها ، حيث أنها كانت قد غادرت سان فرانسيسكو إلى فرنسا طلباً للأمان بعد أن أخبرتها الأبراج بأن سان فرانسيسكو إلى فرنسا طلباً للأمان بعد أن أخبرتها الأبراج بأن سان فرانسيسكو وأجزاء كبيرة أخرى من كاليفورنيا سوف تتعرض لزلزال مدمر .

وعندما عادت السيدة كويغلي إلى شقتها فيما بعد وجدت كاليفورنيا مازالت متماسكة على حالها ، غير أن سمعة الرئيس ريغان كسياسي مفكر كانت قد أصبحت في حالة يرثى لها ، برغم الشكوك التي تحيط بقيمة علم التنجيم ، وبرغم الدراسات والأبحاث التي أجريت حول هذا الأمر قليلة جداً ، فإن السؤال يظل مطروحاً ،هل بإمكان النجوم أن تتحكم بشخصياتنا وتتنبأ بمستقبلنا ؟

علم النفس والتنجيم :
في سبعينيات من هذا القرن قام العالم الفرنسي ورجل الاحصاء ميشيل غوغلين ، بإجراء مسح لتواريخ ميلاد مجموعة كبيرة من المشاهير في مهن مختلفة ، وبتحليل نتائج دراسية ، وجد غوغلين أن هناك روابط بين قدرات الناس المهنية في التجارة والسياسة والرياضة والفنون وبين أوقات ميلادهم .

بحيث لا تخضع تلك الروابط في نسبها لعامل الصدفة ، ثم توسع في دراسته وأرسل وصفاً تفصيلياً لشخصية كل من أول 1000 متقدم لاستشارته ، وقد تلقى رسائل من 85 بالمائة من شريك حياة الموصوف تؤكد صحة الصفات الشخصية التي ذكرها غوغلين .

 

وقد ذكرت صحيفة «الاكسبرس» البريطانية أن عددًا كبيرًا من كبار القادة في العالم يستشيرون المنجمين قبل اتخاذ أي قرار سياسي مهم، وتعضد ذلك ياجيل ديدييه (منجمة فرنسية) التي أكدت أن السياسيين يهتمون بالتنجيم في أوقات الانتخابات بشكل خاص، قائلة: يريدون معرفة ما إذا كانوا سينتخبون، ويريدون أيضًا معرفة خصمهم السياسي. استشارة دائمة .

أما ميتران فلم يكن يخفي استشارته المستمرة للمنجمة اليزابيث تيسييه قبل اتخاذه أية قرارات سياسية مهمة، بما في ذلك تركه لها اختيار يوم استفتاء الشعب الفرنسي على اتفاقية ماستريخت، وبعض قراراته إبان غزو صدام حسين للكويت عام 1990.

وكانت تيسييه تحلل لميتران وزراءه من واقع أبراجهم فتقبّح من تشاء وتجمّل في عينيه من تشاء.

 

عراف خاص وفي ألمانيا القريبة فقد كان لهتلر عرافة الخاص واسمه كارل برندلبرخت، ولكنه تحول منه بعد عام 1933 الى أريك هانوزون مدير ما عرف بـ»معهد برلين للعرافة». وقد طلب هتلر من قائده رومل حين كانت المعارك حامية في شمال إفريقيا أن يحضر له أحد الشيوخ من ليبيا وهو منجم وعالم كبير اسمه الشيخ عبدالرحمن له خبرة في معرفة المستقبل.

مجرد تجربة

وحين نأتي لـ10 داوننغ ستريت، مقر رئاسة الوزراء البريطانية، فباستثناء حالة تشرشل التي أهداه فيها ديغول العرافة جين ديكسون، فلا يوجد الكثير، فالمرأة الحديدية مارغريت تاتشر اعترفت بأنها لجأت أحيانا للعرافة والمنجمين، ولكنها قطعت بأنها لم تأخذ بآرائهم.

وقد ذكر أن برنامج عمل الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن كانت تحدده الأبراج السماوية الأمر الذي يفسر لنا بعض أسباب تصرفات يلتسن غير المفهومة أحيانا مثل إلغاء بعض رحلاته إلى الخارج وتبديل أو تحديد موعد عمليته الجراحية الأمر الذي لم يحدده الأطباء بل المنجم الذي استشاره يلتسن ويدعى جورجي روغوديني، وهو جنرال سابق في جهاز المخابرات السوفيتية تحول إلى دراسة أصول التنجيم. ويقال: إن «ستالين» (1879 -1953) كان يركن وبصورة مستمرة الى عراف اسمه وولف ميننغ، وكان منومًا مغناطيسيًا أيضا، وقد تنبأ لستالين بأن مدينة ستالينن غراد ستكون نقطة المواجهة الحاسمة بينه وبين الألمان، فيما لجأ الى نفس العراف خلفه الرئيس نيكيتا خروتشوف خلال أزمة الصواريخ مع أمريكا عام 1962. قائمة الرؤساء مع المنجمين طويلة، وفيها أيضًا من الفلبين الرئيس جوزيف سترادا، ومن الأرجنتين الرئيس كارلوس منعم، ومن الهند رئيس الوزراء ديف غودا، ومن إندونيسيا الرئيس سوهارتو. وفي فرنسا، ينفق الفرنسيون مليارات من اليورو سنويا على التنجيم، وهو الأمر الذي ينقض فكرة أن التقدم العلمي يقف عائقا في وجه التنجيم، ومن المفارقات أنه يعمل حوالى 30 ألف محترف في هذه المهنة تحت ظل القانون، الذي يسمح بوجود عيادات متخصصة للمنجمين مع أنه يحرم السحر والشعوذة، ويعاقب من يفتعل الأكاذيب والأضاليل.